العرب في عصر التيه

ياسر الأطرش10 أغسطس 2020آخر تحديث :
العرب في عصر التيه

ليست لبنان وحدها، إلا أن بؤرة العدسة تلتقطها الآن نظراً لقرب عهدها بالمأساة، تلك المأساة التي سرعان ما ستُنسى عند حدوث انفجار ما في عاصمة قريبة أو بعيدة في الجسد العربي الممتد من البحر إلى البحر، والذي لم يعد يضم أوطاناً أو شبه أوطان حتى، وإنما هي سجون متلاصقة كما وصفها مظفر النواب منذ عقود، وما زادها تقدم العهد إلا ظلماً وظلاما.

الأخطر في هذه المرحلة أنها -وبفعل تراكمي- أسقطت طرفي الوطن (الدولة والشعب)، فالذي يقوم على تدبير الأمور وإدارتها في سائر الأقطار العربية، أنظمة شمولية قديمة لم تعد تصلح للعصر، ولم تجدد جلدها إلا ظاهرياً، وعوضاً عن الأخذ بقيم الحكم الحديث وأدواته الديمقراطية، استعانت بمزيد من القمع والتحالفات الشيطانية والرشى المقنعة لحيتان العالم كي يغضوا النظر عن وحشيتها وانتهاء صلاحيتها، ولا بأس عندهم ما دام المستهلكون من سكان العالم الخلفي، غير اللازمين وغير الضروريين في إدارة عملية الإنتاج التي تحكم العالم الجديد.

ما زال بعيداً علينا أن نرى ملكاً يتنازل عن عرشه حتى وإن كان غير كفء أو معتلاً أو فاقد الأهلية… وما زال أقرب إلى الوهم أن نرى رئيس جمهورية يلتزم الدستور ولا يحتال ويمدد لنفسه مراراً وإلى الأبد!… وما زال مستحيلاً أن نرى حكومة أو مؤسسة برلمانية تقوم بدورها بشكل مستقل، فالحاكم الفرد هو الذي يسيِّر كل شيء ويفرض هيمنته على المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقانونية…

ولأن العالم الجديد وإنسانه لم يعد يقوى على حمل هذا الكم من التخلف والتبعية والبؤس، فإن انفجارات عفوية وأخرى شبه منظمة حصلت وستحصل حتى استواء السفينة على الماء أو غرقها في قيعان النسيان والعدم، وما الأنظمة التي تراهن على استيعاب الموجات الارتدادية لغضب الناس، إلا جموع موهومين وموتورين وسفاحين في المقام الأول، وما مراهنة هؤلاء على إعادة إنتاج الأنظمة التي أسقطتها ثورات الغضب إلا كمتشبث بقطعة حديد وسط موج متلاطم، ولعل في درس بيروت الأخير عبرة لهم، وإن كان هؤلاء لا يعتبرون، لأنهم اختاروا معادلة: نحكم البلد أو ندمره!.

الأنظمة تلك، التي هي في مجمل مؤسساتها الرسمية ليست دولة ولا شيء فيها يشبه الدولة، استطاعت عبر مؤامرات سياسية وثقافية واجتماعية طويلة الأمد، تخريب الأرضية المشتركة للناس، وخرم العقد الاجتماعي، وتقويض العُرْف وتحريف الموروث الإنساني، وربط الناس بمصالحهم الآنية التي لا تتعدى نصف حياة أو أقل! فأصبح تأمين القوت والمأوى والطبابة في حدودها الدنيا مكسباً عظيماً يجب شكره، نعم يجب أن تشكر النظام وليس الله على أنك ما زلت حياً!!.

وفي حرب الأنظمة التي تهدف إلى تخليدها جثثاً تحكم جثثاً وبلاداً جثة، لم تستطع جموع الناس التعافي سريعاً من أمراضها و”الفيروسات” التي لقحتها بها الأنظمة طوال عقود، فوقف بعض الناس ضد بعض، وقتل العبد الحر، واصطف طالبو الأمن في طوابير الذل يذودون عن أربابهم، إلا أن ذلك لم يغن عنهم شيئاً، فلم يفوزوا بالحرية ولا بالأمن، وصاروا أضيع من أيتام على مأدبة لئام، لكنهم لا يستطيعون بعد ذلك حراكا، ذلك أنهم تورطوا بدماء إخوتهم، وقتلوا كل من سولت له نفسه أن يقول: لا… تلك الكلمة التي تستوجب القتل في عالم العرب.

وكذا؛ لا يستطيع جنود “حسن نصر الله” العودة اليوم إلى صفوف الناس، لأنهم لم يكونوا منهم يوماً، ولم يشيعوا فيهم إلا القتل والظلم وبث روح العبودية، ومثلهم كثير من أتباع الفرقاء القابعين تحت سلطة الدين والمذهب والإيديولوجيا، ولم يعرفوا سقف الوطن يوما.. ومن دون عودة هؤلاء لا يمكن الحديث عن عقد اجتماعي وسياسي جديد ينقذ البلد، وكذا الحال في سوريا، التي بعدت فيها الشقة بين الأطراف، وصار الحديث عن “شعب سوري” مثيراً للسخرية، فالدم والحقد الواقع لن يُشفى إلا بمرور سنين طوال، والمشروع الانفصالي متربص في الشرق الذي جحد كل انتماء إلا لقوميته، وفي الساحل الذي انفصل عن جسد الصحراء، وفي الجبل الذي نأى بنفسه والتجأ إلى رايته الملونة رافعاً إياها فوق كل انتماء، وإن زعمنا غير ذلك.

إنها جموع عشائر وقبائل وطوائف ومذاهب وعرقيات… كان من الممكن أن تكون “شعباً” لو تواضعت بملء إرادتها السياسية والاجتماعية على دستور وقوانين تنظم حياتها وعلاقاتها، لكن ذلك لم يكن، لأن الناطقين باسم “الناس” هم من يقر كل شيء من منطلقات براغماتية ضيقة، وليس من منطق الوطن الذي لم يتشكل بعد في عالمنا العربي…

إنها جغرافيا نعيش فيها، نحبها لأننا اعتدناها، ولأن فيها أهلنا وذكرياتنا ومدارج طفولتنا.. ونخاف منها، لأنها لم تكن يوماً أماً بل زوجة أب قاسية في أحسن الأحوال.

إنها جغرافيا، فيها عسكر وجموع ناس، وخوفٌ كثير، وحلم.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل