على مدى عقود عانت السياسة السورية وطبقة الحكام السوريين من أزمة المشروعية التي افتقدتها، فبعد محاولات للنخب والقيادات السياسية بُعيد الإستقلال لبناء سلطة سياسية تتمتع بمشروعية قانونية وشعبية عبر دستور يقره السوريون، ويُبنى على نصوص شرعية تقوم على الفصل بين السلطات وتوزيع تلك السلطات، ومن ثم تشكيل جسم قضائي وقانوني حقيقي يشرف على تطبيق تلك السلطات لقوانينها، إلا أن الصراعات السياسية ودخول العسكر حقل السياسة ومن ثم سيطرتهم على مقاليد الحكم وتعطيل العملية السياسية وانتهاك الدستور كل ذلك ولّد أزمة واضحة لمدى مشروعية تلك الأنظمة التي قامت على أنقاض هياكل سياسية لتبني أشكالاً أخرى خاصة بها تحاول أن تفرضها على المجتمع لتستمد منه شرعيتها المنقوصة دون أي مشاركة لهُ في صناعتها.
ولعل فترة حكم آل الأسد تعتبر من أكثر تلك الفترات التي شهدت أزمة في المشروعية السياسية للسلطة الحاكمة، إذ جاء حافظ الأسد بانقلاب على السلطة السياسية قاده الجيش فعطل الدستور ومؤسسات الدولة ومن ثم جاء بدستور على قياس السلطة التي بدأ العمل على إرساء قواعدها وجعله دستوراً دائماً للبلاد وكبله بمواد تنزع عنه قوته، اعتمد الدستور الجديد في مواده على إرساء سلطة الحزب والذي تحولَ وفق أحد مواده لقائد للدولة والمجتمع متحولاً عن وظيفته الأصلية في تحقيق أهدافه التي نشأ من أجلها ليصبح حارساً للسلطة وأداة لتحقيق أهدافها، إذ سيطر الحزب على الحالة السياسية السورية وبالتالي كان حصان طروادة الذي اتخذته السلطة للبقاء في الحكم، إذ تم تطويع أفراده وقوانينه من أجل دعم السلطة المطلقة من خلال استنساخ أو إيجاد تجارب تدعم هذه السلطة، فكان ما سمي بالجبهة الوطنية التقدمية وهي تجمع للأحزاب الموالية للسلطة مهمتها الأساسية إعطاء الشرعية السياسية للسلطة من خلال تأييد سياساتها والمشاركة معها في سياساتها من خلال الإنضواء تحت سلطتها والتماهي معها وبالتالي إعطائها شرعية منقوصة، وبذلك تم تعطيل أي خيارات أخرى يمكن للشعب من خلالها ممارسة دوره في إعطاء الشرعية أو الرقابة على ممارسات السلطة، فاستأثرت الجبهة التي يقودها الحزب بمعظم مقاعد مجلس الشعب والذي تحولت انتخاباته لعملية مقولبة جاهزة تتوزع فيها مقاعده عبر آلية مجهزة مسبقاً تضمن لمؤيدي السلطة الأغلبية المطلقة، شيئاً فشيئاً تحولت هذه الأغلبية إلى تمثيل كامل، إذ لم تشهد مقاعد المجلس وجوداً لمعارضة حقيقية وذلك بسبب الآلية التي يتم العمل من خلالها لإيصال الأعضاء عبر انتمائهم للأحزاب أو قربهم منها وكذلك بسبب عدم وجود معارضة فاعلة إذ عملت السلطة على إقصائها من الحياة السياسية السورية عبر ممارسة العنف المفرط عليها عبر الاعتقال والتغييب من جهة والترويض من جهة أخرى، كذلك في عملية توزيع الحقائب الوزارية أو المناصب السياسية مما عزل السلطة عن الشعب، ولعل أبرز أشكال سحب المشروعية من يد الشعب هي عملية الاستفتاء على منصب رئيس الجمهورية وهي عملية أبعد ما تكون عن الانتخاب والإنتقاء الديمرقراطي إذ تستأثر قيادة الحزب بترشيح أمينها العام لمجلس الشعب الذي يسيطر عليه الحزب ومن ثم موافقته على عملية استفتاء على شخص واحد تم فرضه من قبل السلطة والتي تمارس عملية رقابة على الناخبين مما يفرض عليهم الموافقة سواء برغبة منها أو دونها وهو مايفسر نسب فوز المرشح التي تتجاوز ال 99% بالرغم من قلة المشاركة فيها، لم تحاول السلطة تغيير طريقتها في التعاطي مع مجتمعها ومحاولة الاقتراب من الشارع للحصول على مشروعية حقيقية وكذلك جعله يشارك في إضفائها مما تسبب بقطيعة معه زادت بمرور الوقت حتى اصبحت أحد أسباب ثورة السوريين على سلطتهم الحاكمة.
على الجانب الأخر لم تنج المعارضة من ذات الفخ الذي وقعت فيه من جهة الحصول على المشروعية وذلك منذ بداية تشكيل أجسامها السياسية التي استأثرت بالقرار السياسي للثورة فكان الإنقسام واضحاً مع نشوء ثنائية الثورة والمعارضة، ففي حين كانت الثورة تقدم التضحيات كانت المعارضة تحقق المكاسب الذاتية وتبتعد شيئاً فشيئاً عن الشارع الذي أعطاها بداية نوعاً من الشرعية أملاً في أن تحقق له مكاسب سياسية تتناسب مع تضحياته التي قدمها، فبعد تجربة لجان التنسيق والتي نشأت داخل جسم الثورة واعتمدت على الشباب المنخرطين فيها بصورة كبيرة وبالتالي استطاعت قيادة الحراك الثوري من داخله عبر تنسيقيات قادها ناشطو الثورة، بدأت الشخصيات المعارضة والتي يتواجد معظمها خارج سوريا منذ عقود البحث عن مكان لها في تصدر الواجهة الثورية من خلال محاولة إيجاد مكان لها في الشارع وحين فشلت بدأت بتشكيل أجسام سياسية أصبح الشارع الثوري بحاجة لها من أجل نقل مطالبه واهدافه، لكن وبحكم عدم مشروعيتها وضعف فهمها لطبيعة ومفرزات الشارع الذي غابت عنه لسنوات، تشكلت تلك الأجسام التي بدأت بالمجلس الوطني وتوالدت وتوسعت لتصل للإئتلاف وهيئة المفاوضات وغيرها من تلك الأجسام المعارضة التي تختلف في أولوياتها وأهدافها عن أولويات وأهداف الثورة، هذه الأجسام التي تشكلت على أساس المحاصصة السياسية والجغرافية والعرقية لم تنشأ بفعل دفع الشارع الثوري لها بل على العكس عملت على تذويب الناشطين الثوريين ضمنها رغبة منها في الحصول على الشرعية من جهة وقتل أي شكل من أشكال مشروعية الشارع من خلال التعتيم على ناشطيه وممثليه الحقيقيين ومحاولة تشويه صورهم وشن حملات تضليل بحقهم، وكذلك محاولة إبعاد الشخصيات التي مثلت نبض هذا الشارع وتغييبها والمجيء بشخصيات أخرى قابلة للتحويل ولديها القدرة على تغيير توجهاتها وولائها، لذلك تم تغييب كثير من القادة الثوريين والقيادات العسكرية لمصلحة ظهور شخصيات سياسية وعسكرية قابلة للتطويع والتماهي مع المشاريع الإقليمية والدولية، مما أفقد تلك الأجسام التي شكلتها المعارضة مشروعيتها التي حصلت على بعض منها نتيجة إعطاء وعود غير حقيقية للشارع الثائر.
مع مرور الوقت وإبتعاد تلك الأجسام عن الشارع وخسارتها لشرعيتها الشعبية شيئاً فشيئاً لجأت تلك الأجسام وعبر الشخصيات التي تمثلها للحصول على شرعية دولية وإقليمية، وقد نجحت في البداية كونها كانت تحظى ببعض شرعية الشارع الذي رفع في مظاهراته لافتات تعطيها هذه الشرعية والتي سقطت فيما بعد في مناسبات عدة، هذا البحث عن المشروعية دفعها لتقديم تنازلات كبرى حولتها إلى أجسام تابعة متذرعة بذرائع شتى لا تتوافق مع تبعيتها، هذا الضعف وفقدان المشروعية الداخلية جعل كثير من الدول تعيد النظر في تعاملها مع المعارضة السورية كممثل للسوريين وبالتالي قلصت من دعمها السياسي لها بسبب انحياز المعارضة لأحلاف وتيارات إقليمية، هذا الانحياز أدى لانزياحات كبرى في توجهات المعارضة وانخراطها بشكل مباشر في تلك الصراعات التي تسببت بخسائر كبرى للثورة السورية كحالة ثورية تحتاج دعم الجميع وتسببت بتراجع رصيدها من الدعم الدولي، وبالتالي فقدت المعارضة مشروعيتها أمام الشارع السوري وجزء كبير جداً من مشروعيتها أمام الدول الداعمة والتي لم تعد ترى فيها بديلاً حقيقياً عن نظام الأسد، وبسبب هذا التراجع لجأت شخصيات المعارضة لممارسات تشبه تلك التي يقوم بها نظام الأسد من خلال عمليات التوسعة المتواصلة رغبة باستعادة بعض الشرعية، لكنها وبسبب سياساتها وفقدان الثقة بها لم تنجح سوى باستقطاب أجسام تشبهها غير معروفة وغير حاصلة على دعم شعبي وبالتالي هناك مصلحة مشتركة بين الطرفين إذ يحاول كل طرف الحصول على شرعيته من الطرف الآخر المفتقد لها أصلاً، ولعل أبرز أشكال فقدانها هو لجوء تلك الأجسام لتبادل قيادتها عبر عمليات تشبه عملية تبديل الطرابيش كما حصل مؤخراً بين أنس العبدة ونصر الحريري اللذين تبادلا مواقعهما في رئاسة الإئتلاف والهيئة العليا للمفاوضات في عملية لم يجرؤ حتى نظام الأسد على القيام بها، وتذكر بما قام به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين تبادل مع صديقه مدفيدف رئاسة الجمهورية والوزراء في ثنائية سميت بوتين مدفيدف، لتظهر ثنائية جديدة هي الحريري العبدة، هذه الثنائية هي دليل واضح على فقدان الشرعية وعدم قدرة هذه الأجسام على الحصول على دعم شعبي مما يعني تناقص الاعتراف بها والذي وصل لأدنى مستوياته، إذ لم تقدم منذ العام 2013 أي تقدم يذكر واستمرت بعملية المراوحة بالمكان والتي تحولت ما بعد مؤتمر الرياض 2 لعمليات تراجع وتنازل واضحة على جميع الأصعدة السياسية والميدانية، ولعل أبرز مواقف تغيير المزاج الدولي تجاه المعارضة السورية هو التحول الأمريكي في النظر لتلك الأجسام واستبدالها بأجسام أخرى محلية وذلك في قراءة أمريكية للتجربة العراقية، إذ لا يرغب الأمريكان بمجلس بريمر جديد، من هنا نستطيع القول إن المعارضة السورية فقدت شرعيتها وأنها أحد أسباب استمرار الاستعصاء في الحالة السورية وأنه آن الأوان لعملية إصلاح كلية تستبعد الشخصيات التي كانت سبباً في ما وصلت إليه حال الثورة من تنازلات وهزائم وارتهانات وتقوم بعملية تغيير جذرية في محاولة لاستعادة الشرعية الشعبية التي فقدتها بشكل شبه مطلق، والتي لن تستعيدها في حال بقاء ذات الأشخاص والواجهات السياسية التي تتصدرها.
عذراً التعليقات مغلقة