تتعاظم أهميّة التّعليم في زمن الحرب وحقبة الاستبداد والعنف بسبب ما يصيب المجتمع من انهيار وتصدّع في العلاقات الإنسانيّة والاجتماعيّة، وما يهدّد مصير الإنسان وأرضه، فيقع على عاتق التّعليم والتّربية مهمة صعبة جدا هي إشفاء الإنسان من الكارثة وحفظ الاتزان. فالشعب المثخن بالجراح يحتاج إلى تعليم مدني متحضّر يخرجه من إحباطه وخوفه وفقدان اليقين، ويمدّه بعونٍ نفسيّ وقيمي وفكريً لكي يعي نفسه وما حوله، ويسترشد به علميّاً مهنيّاً ووطنيّاً.
الكفاح من أجل الّتعليم والتربيّة ليس عبثاً، هو ، أيضاً، كفاح الحرية والصحوة، والحرب التي بدّدت المجتمع وفكّكت روابطه الإنسانيّة، لا يمكن التغلّب على آثارها الفظيعة ودمارها الهائل إلا بمنظومة تعليميّة متماسكة تعمل على الحاضر كإسعاف وطوارىء، وعلى المستقبل كبناء للإنسان الصالح، وكبنية نهضةٍ وعلمٍ لسوريا الموحّدة المستقلّة المستنيرة.
حفرت عقودُ الاستبداد فسادَها وخرابها في المجتمع السوري وفي مؤسساته التّعليميّة والثقافية؛ فعزّزت في مدارسها وجامعاتها ذهنيّة الطائفيّة والمناطقيّة والتمييز الديني والقومي، ثم جاءت الحرب؛ فقضت على التعليم والمؤسسات التعليمية، ودمّرت المدارس وقتلت وهجّرت المعلمين والطلاب وفرّقت العائلات وخلّفت المعوقين والأيتام وأكملت تمزيق البنى التّحتيّة المهترئة، وكلها مشاكل تزيد من صعوبات التعلّم والتّعليم، كما جلبت العسكرة وقوى دخيلة متسلّطة ومناهج جديدة غريبة بلا معايير وطنيّة أو جودة علميّة؛ ما ولّد مزيداً من الفتن والضغائن؛ فانقسم التّعليم بحسب مناطق النفوذ، بين مرجعيّات وسلطات متناقضة، بين حكومة ائتلاف متخبّطة تحاول ترميم مناهج الدولة القديمة وتعديلها والتجسير في الخارج، وحكومات داعش وقسد والنصرة التي أخذت تستقوي بالقمع وتفرض المناهج العصبويّة غير الملائمة لروح المواطنة، وحكومة نظام مستبد عنصري استشرى الفساد والرجعيّة في بنيتها التّعليميّة. فما الحل أمام هذا الخراب؟ أهو الإذعان بحجة أنّ إنقاذ التعليم وبناء منظومة تعليمّة جديدة غير ممكن في ظروف الحرب والإرهاب والاستبداد، وتأجيل العمل الجدّي الجامع على التّعليم حتى يتحقق السلم والاستقرار السياسي؟ أم بذل جهد تعاوني وتخطيط تربوي لتأسيس تعليم مدني حديث يستند إلى منظومة معرفيّة متطوّرة ومنظومة قيمية من تاريخ سوريا ووجدانها واحتياجها؟
التأجيل انتظاراً لتحقّق البيئة الآمنة وإيجاد البنية التحتيّة وبروز المرجعية هو قبولٌ بالهزيمة والعجز وتركٌ للناس في مهب الريح تتخبّط. لابدّ من خطوة جديدة ثابتة وخارطة عمل واقعيّة للتعليم المدرسي قابلة للتطبيق في الحاضر، وإرشاديّة للمستقبل. تتحمّل القوى الوطنية العاملة في التّعليم المدرسي النظامي وغير النظامي، وفي المجال الثقافي مسئوليّة العمل الجدّي على هذا الموضوع. صحيح أنّ بعض مراكز الأبحاث والمنظمات تقوم بأنشطة تعليميّة لتدريب المعلمين ودعم أداء الطلاب الأكاديمي؛ لكنّ عملها يبقى محدوداً، وأهدافه مقتصرة على أهداف المنظمات وأفكار مموليها، يعالج الشكل والتقنيّة أكثر من توجهه لأعماق المسألة. فالمطلوب أكبر من ذلك وأكثر تنظيما وعمقاً وشموليّة.
التعاون لتأسيس ملتقى تعليمي تربوي سوري قد يكون خطوة مهمة لإسعاف التعليم ورسم خارطة عمل وخطة منهجيّة للمنظومة التعليمية وللخطوات التّنفيذيّة وللتمويل.
ماهو الملتقى التّعليمي التربوي السوري المقترح؟
هو دعوة القوى الوطنية السوريّة العاملة في التعليم المدرسي النظامي وغير النظامي، وفي المؤسسات التّعليميّة والثقافيّة في المناطق المحررة وفي الخارج للعمل والمشاركة في تأسيس الملتقى التعليمي التربوي السوري، لكي يكون نواة لتوحيد الجهود التعليميّة وتطويرها. والبدء بتحديد أهدافه ورسالته ومهماته وتخطيط أوقات عمله وأماكنه ودوراته وطريقة إدارته، وتوضيح كيفيّية تسيير أعماله التنفيذيّه والتخطيطيّة، وتحديد لجانه الخبيرة وغير المتحيّزة عرقيا أو طائفيا للعمل على مدار السنة وفق أهداف ومهام واضحة. وترتيب الاجتماعات واللقاءات وورشات العمل والمؤتمرات والمنصّات الثقافيّة وحلقات البحث والمناظرات للتباحث ووضع المبادىء التوجيهية العامة للتعليم، وسم السياسية التعليّمية المرادة والتخطيط التربوي للحاضر والبحث في حلول لمشاكل حاليّة، والاستعداد للمرحلة المستقبلية ولمشاكلها القادمة. وبتحديد أدق فإن عمل الملتقى يتجه إلى:
- تحديد أهداف التّعليم السوري وسياساته لكي يكون تعليماً من أجل بناء المواطنة والتعايش الصالح، وتعليما لإعادة بناء المثل الأخلاقيّة وقيم الحرية والحقوق والواجبات، بما يجسّد معاني المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.
- بناء التّصورات والمفاهيم (الإرشادات التوجيهية) التي ستكون بمثابة مرجعيّة في التعليم ومناهجه وتشكّل رؤية السياسة التّعليمية والنظام التّعليمي وتخطيط المناهج بما يراعي الثقافة التّاريخيّة والقيم الأخلاقيّة واحترام الأديان وتقدير التّعدّدية الثّقافية واختلاف الآراء ووحهات النظر الفكريّة والسياسيّة في إطار الوحدة الوطنية. فالتعايش الصالح والسلم لا يتحققان في مجتمع عنصري طائفي تحمل جماعات الأحقاد والضغائن ضد الآخرين.
- تحديد المشاكل والتحديات الناجمة عن الحرب وحقبة الاستبداد الفاسدة الظالمة، فالمشكلات التربويّة والبيئيّة كثيرة وخطيرة، والبحث في حلول مدروسة ضروري وملح ولا مجال للعمل من دون إيجاد حلول للمشكلات الحالية والمستقبليّة. لأنّ بناء الإنسان السوي المتّزن وتخليصه من الجهل والخوف والعنف والإحباط وحماية بيئته هو الغاية وهو طريق النهضة .
- العمل على تكوين منظومة قوانين ومواثيق أخلاقيات مهنيّة لتفكيك التحّيز السياسي، وحماية المؤسسات التعليمية والثقافيّة من الهمينة الحزبيّة والعنف العقائدي والتمييز، ومساعدتها لدعم حرية الرأي والتعبير بما يخدم قيم المواطنة والمساواة في القانون. فمشاكل الصراع السياسي يمكن استيعابها عندما يجري الانفتاح على مناقشتها بموضوعيّة وبدعم مؤسسات التّعليم والثقافة للوصول إلى اتزان سياسي ومجتمعي يحمي وحدة المجتمع ويدعم تنوعه الثري والنافع.
- ربط سياسة المناهج التّعليميّة بإطلاق الفكر الإبداعي والإنتاج والابتكار، وتطوير المناهج الدراسية بما يحقق التوازن بين العقل الناقد والتّفكير المنطقي والحس الأخلاقي لتشكيل الوعي المعرفي الناقد الذي يبني إنساناً مبدعاً ومجتمعاً خلّاقاً وفرصاً متاحة للجميع من دون تمييز عرقي أو جنسي أو طائفي أو طبقي.
- إطلاق البرامج اللامنهجية لإعادة تأهيل الشباب للمجتمع الجديد وتنمية شخصايتهم وتعزيز القدرات البحثية الناقدة، وبرامج خدمة المجتمع، وجعلها بنية من بنى التعليم؛ فأسلوب التعليم التحاوري ومنهج الصف المفتوح على الحوار والجدل يسهم في تكوين وعي بالذات والآخر واحترام الرأي الآخر وحقه في التعبير والتمثيل بما يؤهّل لعقل تشاوري واستشاري، يمنع الاسئثار بالرأي وبالسلطة.
- وضع آليات لدعم التّعليم المهني والحرفي وتطوير المهارات ورفع كفاءة العمل،واستيعاب معوقي الحرب جسديا ونفسيا في تعليم حرفّي يؤمّن لهم عيشا كريما ويخدم المجتمع، وينمّي العمل الحرفي والمهني والزراعي والمهن المساعدة، وتوجّهات التّعليم من أجل التوظيف وسوق العمل.
- الاهتمام بالمدارس المتنقّلة والحافلات التّعليميّة، أو المدارس المتحركة لإغلاق الثغرات في البنية التّحتيّة التّعليميّة من ناحية نقص المدارس والمعلمين، ومساعدة الذين لا يتمكنون من دخول المدارس أو الوصول إليها، كذلك تشجيع التّعليم البيتي والتّعلّم الذاتي بإطار مرجعي وتنظيمه بقوانين وتشريعات.
- توحيد شبكة تعليم الكترونيّة معتمدة تعمل وفق الإرشادات التوجيهيّة ومرجعيّة التّعليم وسياساته، وإنزال البرامج التعليميّة والمساندة وفتح المجال لتقييمها وتقويمها من قبل المتعلمين والمعلمين والمربين والخبراء. الشبكة لا يقتصر عملها على تخزين المعلومات والقوانين والوثائق والمراجع والشهادات، بل يتّسع للمراجع والمصادر التعليميّة وللبرامج والمواد والألعاب التّعليميّة.
- إنشاء مجلة لأبحاث التعليم، ينشر فيها المعلمون والخبراء والأكاديميون تجاربهم ونظرياتهم وتخضع للحوار والمناقشة لاعتمادها بما يسهم في تطوير العمليّة التعليميّة والتربويّة والنقديّة وبناء الإنسان المتزن ومحتمع المواطنة العادلة والتعايش الصالح.
- استمرار تدريب المعلمين نظريّاً وتطبيقيّاً وتأهيلهم ببرامج مناسبة لمتطلبات الوضع الحالي وتمهّد للمرحلة القادمة مع التركيز على تنمية وتطوير خطط الدّعم النفسي والاجتماعي لاستيعاب الصدمة ومشاكل المعوّقين نفسيا وجسديا.
- خلق شراكات مع مؤسسات تعليميّة عالميّة تربوية ذات مصداقية، ومع جهات تمويليّة تعليميّة مدروسة.
يجب أن يمهّد الملتقى بأعماله لاستقبال مرحلة جديدة بنظام سياسي جديد تحرري ديمقراطي عادل، فيعدّ لها الخطط والمقترحات وتوجهات المناهج الدراسية وسياساتها، ثمّ يعاد تقييمها وتقويمها لكي تتناغم مع الدستور ومع القوانين الجديدة. المقترح هو مهمّة صعبة جدا وطويلة وتتطلب متطوعين مؤمنين بها يتعاون كفريق عمل كبير، لكنْ، يناط بها البناء والإصلاح والسلام في سوريا، وعليها يعتمد إحياء العقل السوري الخلّاق.
عذراً التعليقات مغلقة