د. أحمد أنيس الحسون- حرية برس:
سأتحدث عن البرنامج وكأنه قصيدة في عالم كثر فيه النظّامون حول أطراف القبيلة ليُقري سيدُها (الشاعر)، والحيّ يتّسع لهذا الزخم المُفرّغ من الإنسان بجهاته الأربع، وعبر تأويل نقدي يعيش المتلقي بين نصٍّ مغلق وآخر مفتوح، وكثير من القصائد ترمي مفاتيحها في البئر، فيصبح البحث محاطاً بمغامرة مضنية، وبعضها يعطيك مع كلّ قراءة مفتاحاً جديداً لا تحتاج معه إلا أن تحبّ يوسف بعيداً عن غواية الجبّ والنجلاوات الحِسان. لقد توطّد ركنٌ متين عند شريحة عريضة من الشعوب العربية أن مشكلتنا الأساسية هي مشكلة ثقافية، ذات أنساق معادة في تدويرها وتحويرها، بينما ينخر العُمق المُدمّى عظامنا، وأمام هذه الكوارث المُصطنعة يقتلنا العطش لبئرٍ.. لجدولٍ.. لدلوٍ بشربة ماء تستعيد فيها الجفون المُؤرقة معاينة الأفق مجدّداً، وهذا لا يكون إلا بالخروج من استلاب لذّة الملامسة الناعمة لآفاتنا الثقافية والفكرية؛ إذ لا بدّ من طرح عميق يتجاوز السطح، ويغوص في العمق بحثاً وتنقيباً. كما لا تدّعي هذه السطور أنها القرار النقدي المغلق المتحيّز، لكنها على الأقلّ تعلن استنكارها لرمي يوسف في الجبّ ولاستخراج الزيز باستعادة ملحمة الانفصام والعربدة فيما تبقّى من أزقة في أوطان ضيّقة جداً على ضمائر الناس، ومحاطة بجدران مُلطّخة بالمكبوت والمُعلن .
قبل سنة ونصف (تزيد أو تقلّ) انطلق برنامج “ضمائر متصلة” على تلفزيون سوريا في إسطنبول، إعداد وتقديم الشاعر السوري ياسر الأطرش. لا تخلو الخطوة من تحدٍ كبير لاستقطاب الجمهور المُتعب بسبب ما حولنا من ازدحام مزمن بنسبة كبيرة منه، فكان الرهان في الأوساط المثقفة عربياً بشكل عام على مدى النجاح، وكثرت الأسئلة التي لا تنفكّ عن هذا السياق؛ سياق الضمائر المنهكة والمحاصرة بقلق الحقائب المُهيّأة للشتات. تابعت كغيري هذا البرنامج منذ ولادته، واستطاع بأيقوناته على مستوى الطرح والإعداد والتوغّل أن يجعلك تنتظر يوم السبت التالي، فالقضايا على أهميتها لم تقف عند مدخل محاط بإيديولوجيا حزبية أو سياسية وما شابه، ولعل هذا من أهم الأسباب التي جعلته صلة وصل عربياً بين مختلف الضمائر وهو يجذّف وسط هذا الزحام ليشقّ بالضباب طريقاً واضحاً من دون التخلّي عن نواميس الوجدان والأخلاق المتعلّقة بقضايا الشرق الأوسط الجديد بكآبته وفوضاه وبآماله، ضمن إيمان مطلق أن الذي يرأب صدعه ويصحّح مسار الحياة هو العلم بضروبه الفكرية والمعرفية والثقافية المختلفة، فكلّ شيء مرتبط بكلِّ شيء. بعد هذا العمل الدؤوب لأكثر من سنة، وفي موسمه الثاني أفلا يحقّ لمتابع عربي أن يقيّم رهانه؟ هذا ما أردنا التنويه إليه سيما بعدما استطاع أن يترسّخ عربياً بين أوساط المهتمين الباحثين عن التميّز في الطرح والاختيار والنقد، فلم ينفكّ البرنامج عن اختيار أكثر العناوين أهمية بشفافية عالية تنقد الذات والوعي، ضمن محاولة دؤوبة لفتح الأبواب إلى منصّات أخرى تجعلك كمتابع عربي تنخرط في العملية الثقافية والتثاقفية. أنساق عديدة يطرحها البرنامج بوصف المقدّم شاعراً مثقفاً على مستوى العالم العربي بوزن ياسر، وقد تناولت إنتاجَه الأدبي عدّةُ دراسات أكاديمية في مختلف البلدان العربية بجامعاتها ومنابرها، وكما يطرق المواضيع المشيّدة بأسئلة فنية وجمالية في إنتاجه الأدبي، كذلك يطرحها هنا بصيغة حوارية، فحقّق البرنامج صرخة في وجه الوعي المزيّف حيال قضايا مفصليّة في مراحل التطوّر الثقافي والمعرفي، ولا تنفصل عن ارتباط الحالة الثقافية الماثلة عربياً في ظلّ قضايا كبرى كالثورة السورية ومايتبعها من مأساة لا تبتدئ بسورية فحسب ولا تنتهي بها، علماً أنها مأساة العصر والتاريخ قديمه وحديثه، لكنها في غفلة عن هذا العالم المتصحّر أو المتصخّر، ولا خيار أمام استسقاء الرحمة والخلاص إلا بالتيمّم على صخر أصم ريثما نُغاث بالمطر أو كما يُفترض أن يكون.
قرأت ياسر الأطرش شاعراً وإعلامياً كدأب نقّاد مختلفين، ولعل العين الأولى ستبقى أساس الرؤية، لذلك اخترت أن أسمّي هذا البرنامج بالقصيدة، والاختيار ليس مزاجاً نقدياً؛ فقد فرض البرنامج نفسه كقصيدة تشبه المعلّقات من حيث تعدّد المواضيع في بناء فنّي متكامل، وهذه براعة جمالية يتوق إليها المتلقي العربي غالباً؛ إذ طالما تكون هذه الطروحات ضمن قوالب جافة قد تنفّر المتابع، أو يرى البوصلة متعددة الاتجاهات. لا تزال قضايا الوطن العربي مُنتجة للأدب والفكر، ولاتزال النصوص مُحمّلة بأسئلتها، ولايزال المواطن العربي في شوق مستمر لصوت جديد يبدّد فوضى الأصداء المحيطة به وهي تثير الضوضاء المعرفي مُتسلّحة بأدوات ذات غبطة عاطفية حيناً، وذات طابع سحري يستوي فيها الأعمى بالبصير حيناً آخر، ولأني من المراهنين على أهمية وضرورة هذا البرنامج، صار بوسعي أن أعبّر عن صدى ما تتناقله الألسن والأقلام مشيرة إلى هذا البرنامج الثقافي أو ذاك، فقد استطاع برنامج “ضمائر متصلة” أن يبثّ حياة الأسئلة والتحليل في إشارات التعجّب والاستفهام وقد لازمها الموت السريري لعقود أو أكثر عندما انتهى النصّ الإنساني بها لتسقط بالتقادم، كما استجمع شتات الضمائر المنفصلة منها والمتصلة، مثيراً موجة جديدة لقضايا تخصّ المواطن العربي ليخرج من انزواء العذابات الرومانسية، ومن مناقشة القضايا بكثير من الطلاسم وقليل من الجرأة وصدمة الإدهاش، وهذه مناسبة للقول: إنه لم يتوجه بنخبوية عاجيّة، بل أزال الإشارات مخاطباً كلّ العقول، ومشاركاً إياها بما يستجدّ من قضايا ثقافية تتناسب مع واقعه أو تتنافر معه، فالتناسب أو التضاد في الحالتين يحرّضان المشاهد العربي على نقد الذات وتحديد مسالكها، فالموضوع المطروح لا يتوقف عند كونه خبراً أو إعلاناً عن قضية أو حالة أو نشاط ثقافي أو فكري..، بل يصيغ الراهن الثقافي بأسئلة وحوار وتعليقات، كما أنه لا يمتثل لمسألة الكمّ، فالبرنامج لا يتعدّى خمساً وعشرين دقيقة، لكنه يضع المتلقي أمام نص مليء، قيل فيه ماقيل ولايزال مفتوحاً على مصراعيه، بحيث تستقرّ حالة من تحريض المتلقي لينتقل إلى الصفحة التالية على الرغم من عدم الانقطاع فيما تمّ تقديمه؛ فالبحث مجدّداً أصبح قيمة فنية وإنسانية. كما تبدو المهنية في الإخراج والإعداد والإنتاج، فالتقارير الوثائقية وتبويب النقاط والتفصيلات تظهر باحترافيّة مهنية وثقافية تجعلك معها تتصوّر كفاءة فريق العمل، وإدارته لهذه الأمسية الفنيّة بامتياز كوننا نتعامل هنا مع البرنامج على أنه قصيدة فكريّة متعدّدة المواضيع، وفي سياق متصل يقدّم البرنامج سلسلة مهمة جداً لأسماء مبدعين رحلوا عنّا؛ لتعريف المتلقي بإيجاز عن النشأة، وعن التضاريس الثقافية والعلمية المحيطة بالمبدع، وهذه التفاتة قيّمة لذاكرتنا الإبداعية كي لا يُقال إننا نأكل لحم أخينا ميتاً.
اخترت فيما سبق أن أتحدّث عن هذا البرنامج وقد زرع أثراً عند الأوساط المثقفة عربياً، وكأي سوري يعيش غربة ثقافية وفكرية نتعطّش لمشروع ثقافي كنافذة نطلّ منها وسط ازدحام السوق بالغثّ والسمين، فترانا نعجز عن اختزال مقدّمة، فنحيطها بعبارة “مشروع مقدمة”، فلا يملك الإنسان السوري المقروض بكثرة قُرّاض قصيدة وطن مذبوح إلا أن يدمدم سراً أو علانية: سوريا.. كثرت من حولك المطايا ولا محطة تلّوح لها ومنها الأيادي المنهكة على الضّفتين، ولا من طلٍّ يبلّل الأقدام المتيبسة وقد طال سجود استسقائها على ضجيج المُبشّرين والمُنذرين والمُكفّرين.. فينتابنا إيمان مختلف عن فرمانات المنادي وتوصياته، فنيمّم وجهنا شطر قبلة مُغيّبة لنفكّ عنها حصارها، وأنّى يتأتّى لنا ذلك والضمائر منفصلة في شتات العالم تعدّ شتاءً بعد شتاء بانتظار شمس الربيع؟ فيحاول برنامج “ضمائر متصلة” بمسؤولية ووعي إثبات معادلة أن الاتصال ممكن بكلّ الضمائر الغائب منها والحاضر والمستتر وجوباً أو جوازاً، فيحضر الغيم ليبطل التيمّم على الصخر.
عذراً التعليقات مغلقة