اعتصام ساعة حمص .. ليلة ليست كباقي ليالي الثّورة السوريّة

عائشة صبري19 أبريل 2020آخر تحديث :
عائشة صبري

تسعُ سنواتٍ مضتْ على ليلةٍ ليستْ كباقي ليالي الثّورة السُّورية، فمجزرةُ اعتصامِ ساحة السَّاعة الجديدة في مدينة حمص لم تكنْ أمرًا عاديًّا، بل كانتْ دماءُ المعتصمين سراجًا أنار طريقَ الثّوار في حمص وكافة المحافظات السّورية.

نظامُ القتل والإبادة الجماعيَّة واجه المعتصمين آنذاك بالرَّصاص الحي، بعد أن أطلق ضباطه صرخاتٍ مدويَّةٍ على مكبِّرات الصَّوت تُطالب المعتصمين بالمغادرة وفضِّ الاعتصام، لكن ردّهم جاءَ عبر المزيد من هتافات “الشعب يريد إسقاط النظام” و”حريَّة .. حريَّة إسلام ومسيحيَّة”.

لم يأبه الشباب الثّائر بالحريَّة لهذا الإنذار، واستمرُّوا باعتصامهم الذي شارك فيه كلّ من يُطالب بالحرّية من كافة الطوائف والأديان والأحزاب والفئات المجتمعيَّة، في تعبيرٍ حقيقيٍ عن مقولة “الشعب السوري واحد”، حينها مثَّل السُّوريون هذا المعنى الذي بتنا نفتقده في يومنا هذا -للأسف-.

وفجأةً وعند تمام الساعة الثانية إلا عشرين دقيقة بعد منتصف ليل التاسع عشر من نيسان / أبريل 2011 توقفتْ عقاربُ الساعة الجديدة وسط سوق حمص، ليطغى صوت الرصاص الجائر على هدوء المدينة الآسر.

هنا أعطى ضباط جيش ومخابرات نظام الأسد الأمر بفتح النيران بالرشاشات الثقيلة والخفيفة على صدور المعتصمين العاريّة. إنِّي لا أنسى أبدًا أحداث ذلك اليوم، وطلقات الرصاص كأنّي أسمعها الآن (…) والأشدُ من ذلك وقعًا كان صوت مآذن المساجد التي ضجَّت بـ “الله أكبر” و”حي على الجهاد”.

هذان الصوتان كانا يُسمعانِ في مدينتي الحبيبة لأول مرّة بهذا الصخب، نعم فالحدثُ جللٌ، وما أذكره حينها صعود شابٍ إلى مئذنة مسجد سيدنا خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في حي الخالدية، وبدأ بتلاوة عذبة من القرآن الكريم بصوتٍ على درجة عالية من الخشوع والجمال، وفجأة اختفى صوته (…) ولا أدري ماذا حلّ به.

شعوري في تلك اللحظة خوفٌ شديدٌ وترقب، فلا أعرف ماذا يجري حولي (…)، وتوجّهت لغرفة والديَّ كالطفلة أحتمي بهما، وهنا سمعتُ صراخ ابن جيراني يقول لشقيقه الأكبر: “بدي روح جاهد”، وأخذ مسدسه وأراد الخروج لتلك الساحة، وشقيقه يصرخ عليه “تعال يا مجنون ماذا سيفعل (مسدس) أمام المدفعية والأسلحة الثقيلة (…)”.

ولم تكدْ تمضي ساعة رهيبة، وفجأة توقفَ صوتُ الرّصاص والصّراخ، وعمّ الهدوء في كامل أرجاء المدينة، ولم تكمل فرحة وحلم الحماصنة بإسقاط النظام عبر اعتصام مفتوح مثل أشقائهم في مصر حينئذٍ، بل انقلب ذلك إلى مأتمٍ مفتوح الجراح.

وبدأ الجيش الهمجي بمسح آثار الجريمة النكراء، ومن كان يسكن في حي الدبلان رأى بعينيه عبر شرفات ونوافذ المنازل قيام سيَّارات الإطفاء بغسل الشوارع من الدَّم الذي فاحت رائحته الزَّكية في كلّ مكان بحمص.

الشوارع كانت مغطاةً بزجاج المحلّات التجاريَّة المختلط بدماء وأشلاء الشهداء (…) كلّ شيءٍ كان يومها ساكنًا بذهول (…) كلّ شيءٍ يبكي حتى الحجارة. كما أظهرت المجزرة حقيقة تعامل نظام الأسد الإجرامية مع الثورة، وكشفت تجاهل المجتمع الدولي لدماء السوريين.

وبعد ذلك، هل تراجعَ الحماصنةُ الأحرار عن هدفهم ومطلبهم بالحريَّة؟. لا لم يتراجعوا أبدًا بل كانت المجزرة دافعًا لهم للاستمرار، فكان العقابُ تدميرًا شاملًا وحصارًا جائرًا أعقبه التهجير القسري لكافة الأحرار في أيار/ مايو 2014.

الاعتصام جاء غداة خروج مظاهرة في حي باب السباع بمدينة حمص، واجهها النظام بالرصاص الحي، ما أوقع قتلى وجرحى، في السابع عشر من نيسان/أبريل 2011، سبقها بساعات مقتل أربعة متظاهرين في مدينة تلبيسة شمال حمص، خلال تشييع جثمان “الشهيد عمر عويجان” الذي أصيب أمام باب بيته بطلق ناري عشوائي من عناصر النظام.

فأقام الأحرار في اليوم التالي اعتصامًا ضخمًا شارك فيه عشرات الآلاف في ساحة الساعة، بشكل منظّم من قبل لجان شبابيَّة، وتم تأمين أماكن دخول المعتصمين، ومنع دخول أيَّة أسلحة لضمان سلميَّة الاعتصام وأمن المعتصمين، بالإضافة إلى توفير الطعام والشراب لهم.

وأخيرًا .. هل سنعود يومًا ما متحدّين كما اتحدنا في اعتصام الساعة، هل سنتخلّى عن حبِّ الـ”أنا” لنذوب في الـ”نحن”، ونُلغي من قاموسنا التَّفرُّق والتَّشرذم الذي أنهك قوانا ومكّن منّا العدو بسهولة، هل سنخرج بدافعٍ إيمانيٍ بحتٍ بعيدًا عن المال والداعمين والفصائليَّة والحزبيَّة لإسقاط نظام الاستبداد، ثم ننال الحريَّة التي تمسكّنا بها وهتفنا لها من أعماقنا.

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل