مفهوم الفوضى البناءة” أو “التدمير الخلاق” هو مفهوم صاغه المؤرخ الأمريكي مايكل ليدين العضو البارز في معهد “أمريكا انتر برايز” في نهاية القرن العشرين، وعلى أساسه طرح المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون ما سماه “فجوة الاستقرار”، أيّ: هدم وتدمير كل ما هو قائم ومن ثم إعادة بنائه بما يخدم إرادة الفاعلين، وتفسيره الأكثر وضوحاً، بأنه عندما يصل مجتمع ما إلى أقصى درجات الفوضى المتمثلة في العنف اللامتناهي، وإشاعة أكبر قدر ممكن من الخوف لدى الجماهير، فإنَّه يُصبح من الممكن بناؤه من جديد بهوية جديدة وبظروف مريحة تناسب رغبات المتنفذين في صراع ما. وهو ما تبناه صناع السياسة الخارجية الأمريكية، وطبقوه في دول عدة بعد الحرب الباردة في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، واتضحت معالم هذه السياسة أكثر بعد أحداث سبتمبر 2001، ومن ثم غزو العراق مارس 2003، عندما عمدت واشنطن وحلفائها لتدمير مفاصل الدولة العراقية تحت مسوغ صريح، وهو “تدمير القائم المتقادم في أفق استبانات القادم الجديد”، فكيف تحولت سوريا بعد انتفاضة شعبها لأكبر ميدان للفوضى “البناءة” على المزاج الأمريكي؟
الفوضى البناءة وميدانها السوري
ثمة استدلالات منطقية تكشف لنا ثبات السياسة الأمريكية في اعتماد تلك الأطروحات التنظيرية في إطار عملي في سوريا بعد انتفاضتها الشعبية، فالفوضى جعلت من سوريا ميداناً لصراع دموي طويل الأمد أطرافه ليسوا متخاصمين على شكل نظام الحكم وفساد السلطة المستبدة، إنما على هندسة الجماهير سياسياً وأخلاقياً وعلى رسم حدود الجغرافية، وإعادة تكوين المشهد العام في سورية والشرق الأوسط برمته.
ما يقارب التسع سنوات من ثورة السوريين، شهدنا فيها دوراً أسطورياً لشعب مزقته الطائفية والمناطقية والفصائلية والعنف الدموي، وتعددت أطراف قتلهِ من جيش كان يُعتبر الحامي لحدود البلاد وأمنها استحال إلى آلة همجية لإسكات المطالبين بالتغيير بالنار والبارود، وبجانبه منظومة أمنية أخطبوطية استخدمت كل أدواتها الناعمة والخشنة لطمس الأفكار الثورية، والزج بالآلاف في المعتقلات وتصفيتهم وتدعمها دول وتنظيمات توصف بأنها محور “مقاومةٍ” و”ممانعة”، وكانت شرائح واسعة من ضحاياهم السوريين (الثائرين) قد أحسنوا الظن بهم يوماً فصدقوا بأنهم حصن مقاومة ضد العدو التاريخي “إسرائيل” بينما اصطف هؤلاء خلف الحاكم الطاغية وجيشه (مثل حزب الله – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، وصولاً لإيران التي وضعت كل ثقلها لتصفية الحراك الشعبي، ومن بعدها روسيا التي تقاتل بكل غطرستها للانفراد بالنفوذ في سوريا، ومنهم أيضاً التنظيمات الإسلامية التي لعبت دور العدو (المفيد) لذلك التحالف الإجرامي، وأخيراً وليس آخراً التحالف العربي الغربي الذي تقوده واشنطن لقتال تنظيمات إرهابية (عابرة للحدود)، وتحالفت لأجل ذلك مع تنظيمات إرهابية (انفصالية) تطمح لدولة انفصالية (اثنية) عن الوطن الأم، وعبر شرعية خارجية.
أعلنت الدبلوماسية الامريكية منذ الأشهر الأولى للحراك الثوري في سوريا بأن الأسد ونظامه فقدا الشرعية، وبدأت بمعاقبة داعميه وتشكيل حلقات خنق للاقتصاد السوري، ووجهت له عدة إنذارات لفظية، فتحول الناطقون الأمريكيون إلى صحفيين مثيرين للسخرية والشفقة معاً. وتخلل تلك المواقف الباردة المقصودة ضربات تحذيرية غير مؤلمة للنظام السوري، كان الهدف منها كسب استحقاق المفاوضات النووية مع إيران في عهد باراك أوباما، وحين أخبر أوباما مستشاريه بألا يذكروا له شيئاً عن الملف السوري بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران حسب، ما صرح به “بن رودس” مبعوث أوباما الخاص للملفين السوري والإيراني، أصبح الخطاب الأمريكي يعيد نفسه في فترة أيّ مبعوث جديد، من دانييل روبنشتاين إلى روبرت فورد ومايكل راتني وكذلك جيمس جيفري اللذين أكدوا بأن الحل في سوريا لن يكون عسكرياً، وكم من مبعوث أممي زار العواصم العالمية، والتقى مع الأطراف ليؤكد تلك النظرة الأمريكية لمسارات ونتائج الصراع. فأصبح يكرروا قولهم سراً وعلناً: إن الحرب السورية حلولها جاهزة في المطبخ السويسري بالمذاق الأمريكي والإسرائيلي مع شراب الكفاس الروسي (شراب روسي تقليدي)، وفق اتفاقات جنيف والقرار الأممي 2254، وتماشياً مع ترتيبات أمريكية لصفقة القرن التي يجري ترتيبها لسلام الشرق الأوسط!
الرسالة الأمريكية باتت أكثر صرامة مع عهد دونالد ترامب ليثبت للعالم بأن أيام أوباما قد ولت وسياسة الديموقراطيين المترددة في التعامل مع الملف السوري عفا عليها الزمن. فالملف السوري بات مهماً لصلته الوثيقة بالتوسع الإيراني في الشرق الأوسط والقلق الذي تسببه داعش لحلفاء واشنطن في الإقليم والعالم، حيث أنهما أصبحا رصيداً نافعاً في أي انتخابات رئاسية أمريكية؛ لأن فيهما بعدين إستراتيجي ومعنوي لأي زعيم يتقدم بهما خطوة واحدة؛ لأن قضية سورية باتت مأساة العصر الحديث، والشاطر من يحلها!
من يرصد التقاطعات السياسية والأمنية والاقتصادية بالميدان السوري يمكنه فهم الواقع السياسي وتخمين مالات الحل الصعب والممكن بآن واحد، وهو بذلك يدرك أبعاد استراتيجية الفوضى الأمريكية “البناءة”، فالمؤشرات التي تمخضت عن ابتلاع تنظيم الدولة (داعش) وبعدها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة) لفصائل الجيش الحر واحداً تلو الآخر. ومع اتفاقات خفض التصعيد وتهجير السكان من مناطق حمص ودمشق ودرعا وحلب والجزيرة السورية، وما أعقبه من سيطرة واسعة للنظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين على جنوب ووسط وغرب سوريا، ومناطق في شرقي الفرات والبادية، ومن ثم تقدمه وسيطرته على ريف حماة الشمالي والريف الجنوبي لمحافظة إدلب، وحالياً يقوم بتكثيف العمليات العسكرية لانتزاع مناطق الأوتوستراد الدولي بين دمشق وحلب (M5)، وطريق اللاذقية وحلب (M4)، وبلوغهم مناطق كانت صعبة للغاية قبل عامين من اليوم.
وكذلك جاء القرار الأمريكي (المفاجئ) بالانسحاب من سوريا، فاختلطت أوراق اللعبة بين اللاعبين، وتحول الوضع إلى سُعار دبلوماسي وإعلامي للتموضع محل ذلك الفيل الكبير، ولكن بالطريقة ذاتها تتراجع تلك السياسة خطوة للوراء، وتعيد أمريكا نشر قواتها في مناطق النفط السوري وفي مناطق حدودية لتعزز حضورها على الحدود العراقية السورية؛ بهدف إعاقة التحركات الإيرانية العسكرية ومراقبة ميلشياتها العراقية بالتزامن مع الضربات الإسرائيلية (المشروعة روسياً وأمريكياً) على أهم المراكز العسكرية والأمنية لإيران داخل سوريا. وتسارعت الأحداث في نهاية عام 2019 ليكون الحدث المهم بتصفية أبي بكر البغدادي زعيم تنظيم الدولة (داعش)، ومن ثم توقيع الرئيس الأمريكي على قانون قيصر (سيزر) لمعاقبة النظام السوري وكل من يتعاون معه سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً حيث سيكون جميعهم هدفاً لعقوبات مفتوحة، ومن ثم قتل رجل إيران الأول قاسم سليماني، والذي شكل ضربة قاصمة لمصالح إيران الخارجية، وخلق ذلك الفوضى بين الميليشيات التابعة لإيران في الإقليم.
جنت واشنطن بسياسة الفوضى “البناءة” الثمار، فكانت استراتيجية أكثر جدوى، حيث الاجتماعات الأمريكية – الروسية بين لافروف وكيري لفك الاشتباك داخل الأجواء والبر السوري في جنيف عام 2016، والمحادثات بين ترمب وبوتين على هامش قمة العشرين في هامبورغ الألمانية 2017، واجتماع آبيك (منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي) في فيتنام في 10 نوفمبر 2017، والقمة الرئاسية في العاصمة الفنلندية هلسنكي في 16 يوليو عام 2018، أفرزت تفاهمات أكثر وضوحاً عن التموضع العسكري للقوات داخل سوريا، وبناء عليها يتمدد الروس غرب الفرات بينما تحوز أمريكا على شرق الفرات لإكمال مشروعها بمحاربة تنظيم داعش وحماية مصالح حلفائها الكرد، ومنها أيضاً ضمان المصالح القومية لتركيا على الشريط الحدودي، والذي كانت قد عززته المباركة الأمريكية والروسية للأتراك، حيث سمحت لهم بدخول مناطق شمال حلب (درع الفرات) وعفرين (غصن الزيتون) وشرق الفرات (نبع السلام).
إن سياسة الفوضى “البناءة” هي أن تترك العدو الصديق يغرق دون تدخل، في حين تكون قادراً على إنقاذه، وتلك السياسة التي جعلت الكثيرين يظنون بأن أمريكا غائبة عن الإقليم وقضاياه، إنها سياسة مفيدة لهم ولا مثيل لها في إدارة الأزمات وإغراق الأعداء، إنها الفوضى التي تُبقِ الجميع أحياء يتقاتلون، يفاوضون وينافسون ويتأرجحون ويراوغون، ولكن في النهاية يعودون جميعاً للمطبخ السياسي “سويسرا”. الفوضى “البناءة” هي الاستراتيجية الأكثر احترافاً وإفادة في صراعات الألفية الثالثة، حسب مراكز البحث والتحليل العسكري، وذلك بأن تكون قوةً فوق القوى تتحكم في تقدمهم وتراجعهم، وأشكال تفاهماتهم وحدود نفوذهم. فالإدارة الأمريكية منذ أن أصبحت في صدارة العالم، تعمل في سياساتها الخارجية وفق تراتبية مؤسساتية وتنظيمية؛ تبدأ بإعداد دراسات المناطق، ومن ثم تضعها في مخابر متخصصة (اجتماعية واقتصادية وأيديولوجية وسياسية وعسكرية) لتغدو جاهزة، فتتحول دراساتها وأوراق علمها إلى مراكز الخارجية والبنتاغون ومكتب الأمن القومي وCIA، ومن ثم مكتب الرئيس الأمريكي ليجعل القرار المدروس واقعياً. وإنه مهما كانت الشوفينية والأنانية تتحكم بشخصية رئيس أكبر دولة مثل دونالد ترامب إلا أنه محكوم بالعرف الدستوري والطقوس السياسية، كما يؤثر عليه مستشاروه الصقور (المهندسون)، وهنا يعتمد الخطة الأقل تكلفة والأكثر إيلاماً لخصومه وأعداء بلده.
ماذا يفعل السوريون في ظل الفوضى “البناءة” اليوم؟
السوريون اليوم هم كبش فداء، والطرف الأكثر خسارة في خضم الفوضى تلك، فلا النظام السياسي في سوريا سيبقى كما كان قبل مارس 2011 ولا التركيبة الاجتماعية ولا التموضع الجغرافي للسوريين، سيعودان إلى ما كانا عليه، وأما قضايا الاستقرار الاقتصادي والإعمار وعودة المهجرين إلى ديارهم، فلن تنجز في زمن فلكي. بل إنها مأساة لن تستوي إلا برضى صانعي النظام الدولي الجديد، وبمقدار ما لروسيا من نفوذ وطموح، ستكون الضمانات الأمريكية -الإسرائيلية للمصالح الروسية في مناطق استثماراتها وقواعدها العسكرية بشرق سوريا وغربها، شريطة أن تفضي المحادثات الأخيرة لإعادة هندسة نظام سياسي توافقي، يدير سوريا بعقلية مطيعة، وتختلف عن مزاج المتصارعين فيها.
إن ما يجدر بنا أن نفعله هو إعادة تشكيل المرجعية السياسية والاجتماعية الواعية التي تواكب التطورات المتلاحقة، وتخاطب اللاعبين بلغة تدرك الواقع وتستوعب طبيعة الصراع وأبعاده، وتستظل فيما تبقى من شجيرات في بستان وطنٍ أحرقته الحرب الطويلة، وأضرم نارها أكثر أصحاب المصالح ضمن حدود “الفوضى البناءة” و”صفقة القرن”.
عذراً التعليقات مغلقة