بات معلوماً بالمشاهدة والتجربة لدى كل شعب عربي وغير عربي أنّ السّوريين (برجالهم ونسائهم) عموماً، شعب كادح ومخلص وناجح في عمله ويحبّ الكسب الحلال، وهو مهما كان ضعيف الحال يفضّل العمل بأجرٍ زهيد على أن يمدّ يده للسّؤال.
هناك استثناءات كما في البلاد كلها؛ لكنها لا تغير من السّمة العامة لهذا الشعب العزيز الذي ذل منذ أن حكمته عصابة استشرى فسادُها واستشرس استبدادها، فغدا في بلده غريباً قبل أن يصبح غريباً في بلاد الغير، والغربة في الوطن ليست أقل إيلاماً منها خارجه وربما كانت أشد.
فأيام كان البعض “عايشين” (كما يقولون) كنت تجد المتعلّم من أبناء هذا الشعب المنكوب يعمل في بلده المنهوب موظف حكومة أو معلم مدرسة في الصباح لتتفاجأ به سائق تكسي أو عاملاً في مطعم أو أي مهنة حرة في المساء، وغالباً كان عمله الذي يصل به الليل بالنهار لا يكفيه لتأمين حياة مقبولة له ولأسرته؛ فتجده يقترض لأجل شراء بيت صغير يؤويه على أقل تقدير، مختزلاً بذلك كثيراً من أساسيات حياته الأُخرى لسنوات ريثما يسدّد ما عليه من ديون.
والسّوري لطالما تعامل في رحلة كفاحه مع نظريتين شعبيتين تعرفهما شعوب المنطقة كلها: (امش عدل يتحير عدوك فيك)، (وطعمي التم بتستحي العين).
والعِدِل في بلادنا أمر نسبي، وهو في بلد كـ”سوريا أسد” لا يكفي أن يكون قانونيّاً ليوصف بالعِدل (المستقيم)، بل إن الاستقامة في عرف الأنظمة المعادية لشعوبها عموماً وفي عرف نظام الأسد خصوصاً تعني خلافها تماماً، فهي مرادف الالتواء والنّفاق في غالب الأحيان، ما يدفع بالمواطن (المعتّر) الحريص على أن يلتزم بكلّ ما هو قانوني أن يتبع النظرية الثانية: (طعمي التم بتستحي العين)، حتى وإن كان صاحب درجة علمية وأكاديمية واجتماعية رفيعة، من باب (أهون الشّرّين) و (هين فلسك ولا تهين نفسك) وهو وحظه، إما أن تستحيي العين وتحل مشكلته جزئياً، أولا تستحي وتعيده عدواً من جديد، وقد أخد عدوه قراره (وبطّل يتحير فيه)، ليدخله في حلقة مفرغة ومتاهة ليس لها آخر، إلى أن يهديه الله وهدايته لديهم تساوي تشبيحه.
فإن كان حرّاً ترك لهم البلد وبعض ما حمل الجمل ورحل، وإن كان عبداً أطاعهم مدّعياً تمثّله نظرية: (من طلع من داره قل مقداره)، بفرض أن بقاءه مع تشبيحه سيرفع مقداره، وكلنا يعلم مقدار هؤلاء اليوم أين أصبح عند الجميع حتى في نظر أسيادهم !!
لكن الذي حصل لهذا السّوري الحرّ الذي استطاع أن يخرج ويعمل في تغريبته مبتدئاً رحلة كفاح جديدة هو أنّه وجد من يُكرهه بشكل مباشر أو غير مباشر وفي كثير من الأحيان لثالثة أثافٍ من النظريات وهي (التشبيح)، وهو الذي فرّ من بلده كي لا يمارسه، ودفع في سبيل فراره منه ضرائب باهظة من حياته واستقراره وماله وأعماله وربما بعض أهله.
فالغريب في منطقتنا العربية وفي بلاد الجوار لم يعد مُطالبًا فقط بأن يكون نظاميّا فلا يخالف (وهذه ضرورة لا ننكرها على أن يُيسّرَ له الإقامة والعمل بشكل قانوني ففي ذلك خير للبلد أيضاً) ، ولا مطالباً أن يُوظّف ويطعم ويُكرم (وهذا حق بلد وشعب استضافه)، ولا مطالباً بأن يكون أديباً مع المؤدبين وقليلي الأدب على حدّ سواء؛ بل بات عليه طوال الوقت أن يريق ماء وجهه، ويعتذر عن خطئه وخطأ غيره، ويقدّم الولاءات لأنظمة بلاد لطالما أبدت رفضها لتدخّل اللاجئين بسياساتها وحذّرت من ذلك، فإذا انصاع لتحذيرها وجدها تطالبه بحشد الولاء لها باعتبار أنّ الولاء لها مسألة أمن قومي لوطن يعيش فيه، وليس هناك علاقة بين الأمن القومي والسياسة.
وما سمعناه وشاهدناه في السنوات الماضية في كل بلاد اللجوء القريبة يؤكّد أنّ النظريتين الأوليتين لم تعودا كافيتين،(لا المشي عدل ولا طعمي التم)؛ بل وجدنا أنّ الأولى باتت تستفز حقد عداوات الكار، وستجد أن هؤلاء في غالبيتهم (لا يمشون عِدِل)، بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل هم ممن يخالفون قوانين العمل في بلاد لهم، كلُّ ما فيها يتّسم بالسبهللة والعشوائية الّتي تغري المهاجر القادم بالمخالفة أحيانًا (وهنا لا أبرّر بل أفسّر)، ولكن الفرق أنّ أهل البلد لا يجدون من يردعهم لصلات ووساطات أمنية خاصّة لديهم تغطي مخالفاتهم، أو لكونهم جزءاً من المنظومة الأمنية نفسها كما في سوريا الأسد.
والنظرية الثانية تستفز من تعرّى فشلهم أمام نجاح من هاجروا إليهم، وبدل أن يكونوا من المطعمِين انضموا إلى قائمة المطعَمين ومن يجب أن يكون لهم دوماً من طيب هؤلاء المهاجرين نصيب، ولم يزدهم تسامح بعض الناجحين من المهجرين إلى بلادهم إلا لؤما وحقدا وحرباً عليهم، مّا دفع بكثيرين إلى طلب اللجوء لدول الغرب عبر المفوضيات، أو الهجرة عبر قوارب الموت، ولم يعد يخفى على متابع أن الذين هاجروا وطلبوا اللجوء إلى بلاد الغرب من هذه الدّول لا يقلّون عمن بقوا فيها.
فهل ينجح المهجر واللاجئ السوري الذي بقي في بلاد الجوار والمنطقة العربية في حلّ مشكلته بعد ذلك في إيجاد ثالثة أثاف متينة يستقر عليها بعد اضطرابٍ قِدرُه، ويُحفظ بها بعد مهانة قدْرُه، ويبسم له بها بعد عبوس قدَرُه؟
لا أجد كسورية تابعت عشرات بل مئات القصص للمهجرين في العالم العربي والعالم ككلّ، حلّاً للمشكلات التي يتعرض لها العاملون من المهجّرين في منطقتنا إلا في البدء بإيجاد حلّ جماعي حاسم والمسارعة في تبنّيه وتنفيذه، ما دمنا نعيش في زمان وبلاد، لم يعد نشازاً فيها ذلك العدوّ الذي لا تحيّره استقامة، وتلك العُيون الّتي لا تستحي بعطاء.
ولعلّ الحلّ الذي لديّ قد استمددته بدوري من نظرية شعبية أيضاً وردت على خاطري تقول: “الغربة مضيّعة الأصول” وهي وإن كانت ليست نظرية تقدم حلولاً أو جزءاً من حلول، وتكتفي بتوصيف حال الغريب في كلّ مكان، إلا أنّها يمكن أن توحي لكلّ غريب ولاجئ ومهجر يشعر بأنّ أصله قد ضاع في غربته بأن يلمّ شمله على أصله، من ناسه وأهله ومن يساندونه من كرام أهل بلد هجرته، فيكون لأصحاب كلّ عمل أو مهنة تجمع (لوبي) يقدم الدعم القانوني والمادي والمعنوي لأعضائه الذين تعثر بهم الحال وغيرهم من أهل بلدهم الذين لا يجدون عملاً كريماً يحفظ ماء وجوههم في بلاد لجوئهم، مبتعدين عن العيش في دوامة أنفسهم، في ظل نظريات معيبة مشينة نشأ كثيرون منّا عليها فأوردتنا المهالك، ولا تزال آثارها بادية فينا وعلينا لكلّ ذي لبّ، من نحو: “إذا شفت الأعمى طبو ما لك أكرم من ربو”، وليجعلوها “إذا شفت الأعمى حبو، إنت تحت ألطاف ربك وربو”.
وبلا أدنى شك فإنّ دعوتنا للتخلي عن العيش في دوامة الذات ينسحب على أهلنا في الدّاخل السّوري والمطالبين قبل غيرهم بنجدة إخوانهم المستضعفين، لا سيما أولئك المهجرين من مناطق القصف، والذين كانوا ولا يزالون يعايشون ما لا يخطر على قلب بشر من رعب وفقد وفاقة وجراح تحت خيام التشرّد أو في العراء تحت أشجار الزيتون التي حنت عليهم أكثر من بعض القلوب، هؤلاء اليوم هم أجدر السّوريّين بكلّ معونة ودعم ونصرة وضيافة من إخوانهم السّوريّين من دون منّة أو أذى، وإلا فلا عتب على الغريب.
Sorry Comments are closed