من البديهي معرفتنا أن الإنسان قد بدأ رحلته في هذه البشرية فرداً وحيداً، ثم غلب عليه طبعه الميال إلى الاجتماع فبدأ رحلة البحث مع بني جنسه عن أماكن مناسبة لاستمرار بقائهم.
حين بدأت تلك التجمعات بالتكاثر والتضخم بات من الطبيعي أن تؤسس لنفسها نظاماً يضمن بقاءها أو يساهم في تطورها، لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة؛ فمثلما كان الإنسان ميالاً بطبعه إلى الاجتماع كان ميالاً إلى السيطرة أيضاً بالدرجة نفسها.
شيئاً فشيئاً بدأت تلك التجمعات تأخذ شكلها الجديد الذي كان الوسيلة الأنجع من أجل استمرار المجموعات البشرية المستقرة، فتحولت إلى دويلات صغيرة ما لبثت أن تقدمت مع البشرية لتصبح دولاً فيما بعد، وكان لابد أن توكل مهمة الحماية إلى الأشخاص الأكثر قوة، والأكثر قوة هنا لم تكن تعني بعد الفطنة والحنكة والدهاء مثلما تتطلب هذه الأمور في عصرنا الحديث، بل كان يكفي أن يكون الإنسان شديداً وقوياً وقادراً على هزيمة الخصم، ثم تغير هذا المفهوم أيضاً ليكون الشخص المكلف بالحماية ليس قوياً فحسب وإنما عليه أن يمتلك قدراً من الذكاء والحكمة والدبلوماسية.
وإذا أردنا أن نصف الدبلوماسية التي تحكم العلاقات من دون موارابات وبصفاقة هذا العالم المعهودة، فإن أول ما يتبادر إلى الأذهان هو القدرة على التذاكي والحذلقة، وتقبيل اليد التي لا نجرؤ على قطعها -وفقاً لموروثنا- الشعبي في أحيان كثيرة.
ولأن الأمر لم يتعدّ قضاء الحاجة في ذلك الوقت، فإن تطور المنظومة القديمة لم يكن ذو شكل محمودٍ أيضاً، ذلك أن الشكل الحالي الذي تمثله الدولة أصبح لا يتعدى كونه الشكل الشعبي للقبضايات المعروف في الأحياء الأكثر فقراً وجهلاً، إذ تحكمها مجموعة من “الزعران” الذين يتسلطون على سكان الحي ويتقاضون “أتاوات” مقابل خدمات يقدمونها لهم مثل الحماية.
وقد أصبح هذا العمل في غاية الاحترافية “المافيوية” ما يدفعك إلى الظن أن تأسيس الدولة بمفهومه القديم لم يكن إلا من أجل مأسسة هذا العمل وقوننة عمل عصابات الأحياء الحاكمة، غير أنهم اضطروا فيما بعد إلى إطلاق أسماء ذات حلة جديدة لإخفاء معالم الجريمة الأصلية، فصار اسم الحي المنكوب وطناً وأطلقوا على زعيم العصابة اسم الحاكم وغيروا أساليب تسلطهم لتغدو بمظهر أكثر مدنية وبغطاء قانوني مزيف.
علاوة على ذلك فقد عزفوا على وتر المشاعر التي لا يملك الانسان المقهور غيرها وبدؤوا بإعطائه وعوداً معسولة في تحقيق الأحلام ومنع الظلم وتحقيق رغد العيش، وشيئاً فشيئاً تنصلوا من مهمتهم الأساسية التي اتخذوها ذريعة لنشأتهم الأساسية.
فالشعوب المقهورة حين قبلت بنظرية “العقد الاجتماعي” لم تكن تتوقع أن تكون لها هذه النهاية المخيبة، ذلك أنهم قبلوا بالتنازل عن بعض من حرياتهم في سبيل الاستقرار ولم يكونوا على دراية أنهم سيخسرون حرياتهم بمجملها من أجل دولة قائمة على حكم العصابات، أو أنهم يوقعون على عقود إذعان تشمل التزامات من طرف واحد وهو في هذه الحالة الطرف الأضعف الذي لا يمتلك رفاهية الانقلاب فيما بعد أو لا يمتلك القوة أو الجسارة للدفاع عن حقوقه.
وحتى نكون منصفين إن هذه النظرية هي ضرب من الخيال وأبعد ما يكون عن واقعنا من ناحية التطبيق، فالحاكم من حيث المبدأ يعتمد على القوة في الحكم ولا يأبه لإقامة حياة سياسية بين مريديه ولا يطلب منهم سوى الطاعة العمياء والصمت المزمن.
إنه لمن المؤسف ألا يكون الإنسان غبياً في عوالم ودول عملت على تجهيله طيلة قرون من أجل إخفاء آثار جرائمهم المنظمة والمستمرة، فهو يدفع ضريبة وعيه غالياً ليتمنى في نهاية المطاف لو أنه بقي في غفلته غير مكترثٍ أو آبهٍ لما يحصل حوله من اغتصاب للسلطات واستعباد للكائن البشري، تارة بحجة العمل الكريم الذي لا كرامة فيه ولا يكاد يسد رمقه، وأخرى باستغلال حاجته الطبيعية إلى الأمن، وهو في هذه الحالة ربما لا يجهل أنهم يستغلونه لكنه يبقى عديم الحيلة أمام غريزة بقائه التي قد تستدعي الصمت والقبول حفاظاً على حياته أو على حياة من يحبهم.
لقد فطر الإنسان على حب الاجتماع وربما كان في هذا نجاته وهلاكه معاً، فلو دققنا في تفاصيل الوضع الذي بتنا عالقين فيه لاكتشفنا مدى سذاجتنا وانجرافنا وراء شعارات فضفاضة.
فالشيطان هنا لا يكمن في التفاصيل؛ لقد قدر لنا أن نحيا في زمن مهشم الملامح ضاعت فيه تفاصيل الحياة اليومية بالبحث عن الغد الذي وعدونا به، فاكتشفنا أننا عشنا في برزخ الأزمنة من دون أن يصل أحدنا إلى ضفة آمنة أو ملاذ للاستقرار، وربما وصل بعضنا إلى خلاصة أن إنسان الكهف كان أكثر سعادة منا في عزلته على الرغم من بساطة حياته.
الشيطان الحقيقي هو من حول الأماكن التي ننتمي إليها إلى مصيدة نحاول الفرار منها، ومن جعل أحوالنا تعيسة بالقدر الذي يجعلنا نتمنى عكس ما نحياه ظناً أنه الأفضل، أو من جعل من الوطن كذبة كبيرة وألقاها طعماً ابتلعناه ونحن نعلل النفس بالآمال التي نعوض بها واقعنا الأليم.
عذراً التعليقات مغلقة