مجدي شلش
الله غني عن تعذيبنا في الدنيا بالتكليف وفي الآخرة بناره وعقابه، قال تعالى: “ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم”. وفي التكليف بالأمر والنهي ما أراد إلا مصلحتنا، من جلب منفعة لنا أو دفع مضرة عنا، قال تعالى: “يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً”. ومن القواعد الكلية المتفق عليها في التشريع “رفع الحرج” عملاً بقوله تعالى: “…وما جعل عليكم في الدين من حرج…”
الدين مبني علي مصلحة الإنسان فى العاجل والآجل، وجاء هذا المعنى في فريضة الصيام التي ظاهرها المشقة والتعب والامتناع عن المباحات في وقت النهار من شهر رمضان، فقال سبحانه: “… يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر…”، واليسر والعسر قد يفهمه الإنسان على صورة محبوبة له من تناول الطعام والشراب وما يحب ويشتهي، فهذا هو اليسر في نظره، وأما العسر في الشدة والعنت بالبعد عن الملذات والطيبات المباحة، لكن الله سبحانه الأعلم بعباده جعل من صور اليسر الامتناع عن المباحات، ليس عسراً عليهم لكن رحمة بهم من جوانب عديدة، منها:
أولاً: أن هذا الامتناع يحقق التقوى، وتحقيق التقوى بالعبادة أمر مشروع، قال تعالى: “ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون”، فلا يمكن أن تتحقق التقوى في نفس الإنسان بلا عبادة وطاعة، سواء أكانت هذه العبادة صلاة أو صيام أو زكاة أو حج، فتقوى النفوس مرهون بالخضوع والخشوع والاستسلام لله وحده.
وهذا ظاهر في تشريع الصيام بقوله تعالى: “…لعلكم تتقون”، والصلاة بقوله تعالي: “وأن أقيموا الصلاة واتقوه واعلموا أنكم إليه تحشرون”، والزكاة بقوله تعالى: “ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون”، وكذلك الحج بقوله تعالى: “الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقوني يا أولى الألباب”، وقوله تعالى: “…فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون”.
والعبادات المحضة هى شعائر الله التي طلب احترامها وتعظيمها، وتعظيم شعائر الله لا شك أنه من تقوى القلوب، قال تعالى: “ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب”؛ فتقوى القلوب بدايته ونهايته مبني على تعظيم شعائر الله.
ومن المستحيل أن يعيش الإنسان حياة طيبة في الدنيا بلا تقوى، فتقوى الله ثمرتها في الدنيا الفلاح والسعادة والبشرى، وفي الآخرة جنات ونعيم ومقام أمين، قال تعالى: “إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر”، وقال سبحانه: “إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين”، وقال جل شأنه: “إن المتقين في مقام أمين فى جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بفاكهة آمنين …”.
فثمرة التقوى في الدنيا والآخرة متوقفة على الامتناع الذي أمر الله به، وهو اليسر الحقيقي – وإن كان فيه بعض مشقة- الذي يحقق المصلحة للإنسان في العاجل والآجل.
ولفظ التقوى في القرآن من الألفاظ المشتركة التي لها معان كثيرة، منها الإخلاص وكلمة التوحيد وطاعة الله وترك عصيانه، لكن سياق الصيام الذي فيه معنى الإمساك يعطي للتقىي معنى جديداً ألا وهو مجاهدة النفس، فالصيام فيه ترك للمألوف من المحبوب، وقد تكون المدامة على ذلك المحبوب ذريعة لنسيان المعطى، فتأتي صفة المانع كي تذكر المسلم ولو لوقت قصير أنه سبحانه وتعالى هو المانح لهذه المحبوبات، فحبها ليس لذاتها وإنما بجعل الله لها كونها من المحبوبات والمباحات.
هذا جانب، وهناك جانب آخر للمجاهدة وهو تكامل الشبع لغرائز الجسم كلها، فالجسم فيه غرائز كثيرة، بعضها يشبع منه الجسم طول العام ويأخذ منه نهمته ومتطلبه، وبعضه قد يقصر الإنسان في إعطاء حقه من الشبع والامتلاء كغريزة امتلاك الإرادة والعزيمة وحب الحرية من أي أسر حتى ولو كان طعاماً أو شراباً أو لذة.
من هنا تكتمل حقيقة الإنسان في التكريم الإلهي له، قال تعالى: “ولقد كرمنا بني آدم …”، فلا هو بهيمة ترتع في الطعام والشراب واللذة والشهوة، ولا ملك من ملائكة السماء “لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون “، وإنما الصوم يرتب تركيبة الإنسان حسب مراد الله من خلقه كإنسان، “صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون “، فتحصل صفة التوازن في ضبط الغريزة في كينونة الإنسان، فيصير بشراً سوياً كما أراد منه الله الخبير العلام.
ثانياً: تعويد الإنسان على الكمال والإحسان اللذين هما من أعلى المراتب، بعد تمام حقيقة الإيمان والإسلام، فالإحسان والكمال والإتقان في صنع وجودة الأشياء شريعة وشعيرة وفريضة، فالصيام كما قال الله تعالى: “أياماً معدودات…”، كثير منا يصوم، لكن الصوم المطلوب هو الصوم الذي يتسم بسمة الكمال لا بسمة إتمام العدد فحسب، وهذا ما قاله الله سبحانه وتعالى: “…ولتكملوا العدة…”؛ فلو كان المطلوب الصيام على أي وجه كان لقال: وللتمموا العدة. فالتمام يكون فى الأعداد، لكنه قال: “ولتكملوا …”، والكمال إنما يكون في الصفات والطبيعة والحقيقة والجودة، فحقيقة الصيام لا بد أن تكون كاملة من حيث الصفة وتامة من حيث العدد.
ومن هنا نتعلم أن الصوم المطلوب هو المحقق للتقوى بمعنى الإخلاص والمجاهدة، وليس مجرد ترك في مدة معلومة، ولذا جاء حديث النبي -صلى الله عليه وسلم – “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه”. القضية ليست تركاً للطعام أو للذة بلا حقيقة التقوي والمجاهدة.
ثالثاً: أن نكبر الله على ما هدانا من نعمة الصيام في كل وقت وحين، بلا صيام تضطرب حياة الإنسان، ولذلك جعله الله شريعة لكل البشر، “…كتب الصيام كما كتب على الذين من قبلكم …”، فهداية الله لنا بالصيام تحتاج منا إلى تكبير الله سبحانه وتعالى، فهو أكبر من ذواتنا، وأكبر من أي لذة كانت طعاماً أو شراباً أو شهوة.
وتكبير الله معناه الانتصار على النفس بما تحتاجه من مباحات ومحرمات، ولا يمكن مطلقاً الانتصار على الأعداء إلا بالانتصار أولاً على أنفسنا، ومن هنا جاءت فريضة الجهاد متزامنة مع فريضة الصيام، فالصيام شرع فى نفس العام الذي فرض فيه الجهاد في السنة الثانية من الهجرة المباركة، التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى، يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، المعركة التي حق الله فيها الحق بكلماته وأزهق الباطل، ومحق أئمة الكفر، وقطع دابر الكافرين.
وهذه دلالة عظيمة نحو نصر كبير؛ ألا وهي أن الانتصار على الخارج من الأعداء يبدأ أولاً بالانتصار على الداخل من الملذات، وفي غزوة خبير جاع المسلمون ولم يجدوا ما يأكلوه إلا لحم الحمير الأهلية، فذبحوها وطبخوها أمام الرسول – صلى الله عليه وسلم- ثم أمرهم ألا يأكلوا منها بالرغم من حالة الجوع الشديدة، وفي الوقت نفسه غاب المسلمون عن نسائهم وكان نكاح المتعة لم يحرم بعد، فهموا بالتمتع، فحرم الرسول – صلى الله عليه وسلم – التمتع بالنساء، وفي ذلك دلالة واضحة كل الوضوح على أن الأمة التي تريد أن تنتصر على الصهاينة في معركة فاصلة أن تترفع عن الطعام وتمسك يدها عنه، وأن تضبط شهوتها بالبعد عن التمتع، إنها التربية الإيمانية التي صنعت جيل العزة والكرامة والنصر المنشود.
النصر متوقف على صحة التقوى بالصيام الحر الأبي الذي يمتلك المسلم فيه زمام نفسه وقلبه وعقله، لا نصر بلا صبر، ولا صبر بلا صوم، فالصبر نفسه صوم، ومن لم يصم فهو منهزم ولو ملك مال وعتاد الدنيا كلها.
رابعاً: من مقاصد الصوم دوام شكر الله على هذه النعمة التي تجلب التقوى وتحقق المجاهدة وتنتهي بالنصر على الأعداء، من صام حق الصيام شكر الله حق الشكر، لأن الصوم هداية ورفعة للإنسان، ليس مجرد امتناع عن مباحات من أول النهار إلى آخره، لكنه مدرسة إيمانية تخرج المتقين المجاهدين الصابرين الصامدين، فتنتفع الأمة بهذا الجيل، فيجعل من هزيمتها نصراً، ومن ذلها عزاً، ومن إهانتها كرامة، ومن تأخرها تقدماً، ومن ضعفها قوة، أفلا نشكر الله على ذلك؟
والله إن نعمة الصيام تحتاج إلى شكر الله في الليل والنهار، والسر والعلانية، وبالشكر تزيد النعم، وبالغفلة والنسيان تأتي النقم، فالحمد لله على نعمة الصيام، والشكر له على الدوام.
Sorry Comments are closed