الديك
قصة للأديب السوري خالد أحمد شبيب
وقفت في الظل منكمشاً على نفسي كقط مبلّل، وكانت شمس أيّار تمتطي فرساً من نار وتصعد بكبرياء لاعتلاء عرشها السماوي. انحسرت الظلال وانزوت في بقع وخطوط ضيقة تحت صف الأشجار وخواصر الصخور المبعثرة على جانبي الطريق. امتدّ صفّان من أجساد صغيرة منصوبة كتماثيل بشرية تحجَر أصحابها فجأة بنفخة عذاب، لكن أرواحهم ظلّت تلوب في أقفاصها الصلبة على أمل استعادة الحياة مع انقضاء اليوم المدرسي.
كنت في منأى عن الوهج الساخن المنسكب على رؤوس صفّ الجانب الأيمن من الطريق. وقفوا باللباس المدرسي رمليّ اللّون مكشوفين، تجلد وجوهَم الغضة سياطُ الشّمس بضراوة. كنت في الجانب الأيسر، حيث احتمى صفنا بأشجار سرو عالية تكاثفت أغصانها حالكة الخضرة والموشاة بطبقات سميكة من الغبار كأنها تعاهدت على صون ما غنمته من جانب الطريق ووسمته بظلها. في قمة الطريق ــ وسط القريةــ اصطفّ جداران آخران من طلاب المرحلة الإعدادية، وصل بيننا وبينهم خط إسفلتي ضيق ينحدر بهدوء وبساطة بين أشجار السرو على اليسار وأكوام روث الأبقار غير المتساوية على الجانب الأيمن. يفضي الطريق في نهايته إلى بوابة المدرسة المشتركة للمراحل الدراسية جميعها. بدت البوابة عالية وواسعة وقتئذ، ربما بسبب صغر أجسادنا وتَعَوُّدِنا بساطة بيوت القرية الطينية.
لم تشفع لي برودة الظل النسبية ولم أعرف وقتئذ أنني محموم. توهمت أن وهج الشمس يخترق حصون السرو ويغشى جسدي، لكنني تحاملت على شعور الإعياء المتواتر وصمدت في وقفة الانضباط بداية الأمر خوفاً من العقاب، ولم أجرؤ على الشكوى حتى في داخلي.
ــ تأخروا كثيراً.
قال الأستاذ نمر مدرس التربية العسكرية لنفسه بصوت مسموع وهو يراقب عقارب الساعة في يده اليسرى بقلق، ثم ضرب بعود خيزران رفيع في يمينه ظاهر فخذه بتوتر، وتشابكت كفاه خلف ظهره من جديد، فتدلى عود الخيزران خلفه كذيل جرذ ضخم. مسح عرق جبينه بكم قميصه باهت اللون وسار يتفقد انتظام صفيّ التلاميذ بخطوات رتيبة ومضحكة، وفاقم طرافة المشهد قصر قامته وانتفاخ كرشه المفرط بين صدره الضيق مترهل الثديين وفخذيه السمينتين.
لم يمر الأمر بسلام، فقد فشل تلميذان يقف أحدهما إلى جانبي في كبت ضحكاتهما. دبت الحياة في الأجساد الحجرية الصغيرة حين خطا الأستاذ نمر بينهم في مشية الديك التي اشتهر بها. كانت مشيته المضحكة تلك مثار سخرية الأولاد معظمهم. حتى أهالي القرية كانوا يذكرونها في جلساتهم الصيفية على عتبات البيوت ويثنون على أسوأ تقليد ساخر لها. ولا يعرف أحد من أطلق عليها تلك التسمية، لكنهم اتفقوا على صوابها برغم اعتراض أبي سعد بائع الفرّوج* الحي والمذبوح. دافع الرجل عن الديكة التي تذود عن رعيتها من الدجاجات والفراخ وتنفخ صدورها – لا بطونها- بإباء وعزة نفس.
كان توفيق هو التلميذ الذي بدأ الضحك ونحن واقفون في الصف، ثم تبعه مالك في الجهة اليمنى، وتوالت ضحكات وهمهمات أقلّ جرأة هنا وهناك، لكنها خمدت بسرعة وانهزام ذليل كثورة تفشّت فيها الخيانات.
ــ استـ..ااا..عد*
أطلق الأستاذ نمر الأمر الذي تعوّده خلال سنوات خدمته العسكرية.
ــ استـ..ااا..رح*
شبكنا أيدينا خلف ظهورنا، وباعد كل منا قدمه اليسرى عن اليمنى بخفة كأنهما حبيبان هجر أحدهما الآخر بتمنع ودلال. رأيت مشهد الحبيبين ذاك في فيلم عربي بثته القناة الوحيدة ليلة الخميس، لكنني استسلمت إلى النوم حين قطعوا الفلم كعادتهم لبث نشرة الأخبار الطويلة كسوط يضرب الرؤوس والآذان.
ــ استـ..اا..عد
ألقت الحبيبة اللعوب نفسها عائدة إلى أحضان الحبيب المفجوع، لكنها فجعته مرة أخرى وهجرته منتقلة إلى اليسار من دون نية للرجوع حين أمرنا الأستاذ نمر بأخذ وضعية الاستراحة مجدداً، فاستسلم الجميع للتحجّر إلا جسدي.
بلغتُ من الوهن ما منعني من التحكم بحركاتي. قصفتني رعدة برد هائلة وانقلبت النار التي كنت أصطلي في لهيبها إلى زمهرير. فركت جسدي بكفيّ لأطرد القشعريرة من أطرافي، لكن عيني الديك لمحتاني بسرعة رادار سوفييتي أغضبه تحرك أحد التماثيل. لم أبلغ من الجرأة ما يمكّنني من تبرير فعلتي ولم أحظ بالوقت الكافي لذلك لو كنت تجرأت. وقفنا في الوسط أمام فوهة الخيزران كأننا في مواجهة كتيبة إعدام. لسع العود المسموم أطرافي وراحتيّ بعد الانتهاء من معاقبة توفيق ومالك. كانت لسعات كافرة بعدد أقل من تلك التي جعلت مالك وتوفيق يصرخان كالقردة الهائجة، إلا أنها حفرت خطوطاً عميقة في راحتي بدت كخنادق تتكوم فيها جثث كريات الدم بعد قصف جوي لا يرحم. لكنني في لجّة العذاب استطعت تحويل الهزيمة إلى نصر، وبدل أن أعود إلى مكاني قمت مستغلاً طاقة الغضب التي منحتني إياها اللسعات باحتلال مكان وقوف مالك في الجهة المقابلة طمعاً في أن تحررني الشمس من قشعريرة الظّل. تخبّط مالك بين الصفين قليلاً ثم وقف في مكاني القديم بحركة آلية وتحجّر مجدداً، ولاحظت أن الظل انحسر عن رأسه وبلغ منتصف بطنه. واجهتُ قرص الشمس وشعرت بدفء غير مريح، ثم غزت جسدي حمم داخلية وتصببت عرقاً بارداً، ورحت أذوب كتمثال من الشمع.
شرعت أذوي في الشمس وأشاغل شعور الإعياء بمراقبة الأستاذ نمر وهو يشبك ذراعيه خلف ظهره ويتهادى كرشه بين الطلبة كديكٍ ضخم. تأخر الوفد الحكومي الذي كان بانتظاره وخشيَ أن تفوته فرصه لقاء المسؤول الحزبي الكبير الذي يرأس الوفد. ستبدأ فور وصولهم مراسم انتخاب المارشال القائد للمرة التاسعة كما سمعت عمّي حسن يقول في الليلة السابقة، وقلبت شفتي باستغراب إذ تابعت مذيعة التلفزيون اليتيم تتحدث عن (عرس الوطن) من دون أن تظهر صورة العروس خلفها إلى جانب القائد العريس. مُنح الأستاذ نمر شرف تنظيم حفل الزفاف الوطني، فوزّع طلاب الإعدادية وتلاميذ الابتدائية على طول طريق المدرسة وطلاب المرحلة الثانوية على مدخل القرية يحملون جميعهم الأعلام وصور المارشال وبعض النباتات. وقع المنظّمون في حيرة لفشلهم في تأمين الزهور إذْ لم يُلقِ مجتمعنا القروي بالاً للأشياء الرومانسية الفارغة، فقد فضّلنا النحل على الفراشات الملونة، وبدل الأزهار زرعت الأمهات البقدونس والبصل للاستفادة منها في وجبات العائلة والنعناع لإسعاف من يداهمه المغص المعوي في الطقس البارد، بينما غطت الحقول خضراوات ومحاصيل زراعية نراها في أبهى صورة حين تكسوها صفرة القيظ وتجف إيذاناً بموسم الحصاد.
ابتكرت معلمة التربية القومية المشاركة في التنظيم حلاً. استُعيض عن الأزهار بأغصان الدفلى من شجيرات المقبرة وبعض أغصان السرو المثقل بالغبار، وحمل الطلاب باقات من سنابل الشعير الخضراء وأعواد البامياء غير المثمرة. كُلِّف أخي أحمد بالمرابطة مع زملائه على مدخل القرية، فحمل متعمداً إبهار زملائه شجيرة باذنجان جميلة من حقلنا القريب. تدلت من الشجيرة ثمرتان صغيرتان بيضاوان. كان أحمد يهز الشجيرة بخبث أثناء التدريب على هتاف الترحيب بالضيوف فتتمايل الثمرتان وتصطدمان ببعضهما ويضحك أقرانه الذين دخلوا مرحلة البلوغ وصارت الأشياء البريئة تشعرهم بالملل. لم أكن وقتئذ قد بلغت تلك المرحلة، فوقفت في صف تلاميذ الابتدائية، وقبل أن يخذلني جسدي تسللت أطوف حول مبنى المدرسة الخالي من صخب التلاميذ.
تلصصت عبر النوافذ فلاحظت أن إحدى غرف الصفوف قد أُفرغت من مقاعد الدراسة وقُسِمت بستارة حمراء إلى قسمين. ارتبكت وكدت أنسحب خشية أن يلحظني أحد، لكن نجاتي من مغامرة تلصّصي على عرس ابنة خالتي قبل أيام مدّني بالجرأة، فراقبت الغرفة من دون حراك يفضح وجودي. كتب معلم العربية على السبورة السوداء (عاش القائد) بخط الرقعة البسيط، ثم مسحها وكتبها مجدداً بالخط الفارسي ورسم تحتها خطّا انطلق ممتدّاً بلا نهاية. على منضدة حديدية خلف الستارة رأيتُ صندوقاً خشبياً يشبه حصالة نقود ضخمة بفتحة تتيح لطفل مثلي أخذ ما يشاء من الصندوق من دون فتحه. على جانبي الصندوق انزوى علم البلاد وعلبة أخذ منها الأستاذ نمر دبوساً ووخز إصبعه مخاطباً معلّم العربية: (هكذا يجب أن يفعل الجميع يارفيق)، ثم طبع قطرات الدم الصغيرة على ورقة بيضاء وألقى بها داخل الصندوق. تأملت الصندوق الخشبي الكئيب وذكّرتني وحشة المكان مجدداً بعرس ابنة خالتي التي كانت تجلس بصمت كئيب بين النساء ثم انفجرت فجأة مهددة بإلقاء نفسها في النهر، لكن الصبايا واصلن رقصهن من دون اكتراث طوال أيام العرس الثلاثة، وجف النهر بعد مدة وصارت العروس خلال سنوات أماً لأطفال خمسة وطفلة صامتة دائماً وحزينة ككتاب يعلوه الغبار.
نبّهني صوت طالبات بمختلف الأعمار كن يتراقصن خلف بوابة المدرسة كسنابل القمح قبل الحصاد، في أيديهن شرائط ملونة قُصَّت من قماش الوسائد القديمة، وتحمل بعضهن باقات بابونج بري ذابلة. وحين انتصبت الشمس فوق رأسي في الصف الحجري شغلني حماسهن الطفولي عن آلام جسدي المختلطة برهة، إلّا أن الإعياء ما لبث أن تذكّرني وعادت الحمى تأكلني من الداخل. شعرت بمفاصلي تصطكُّ جراء الارتجاف كمسننات صدئة. غابت الألوان في شرائط البنات الملونة، وهوت شجرة سرو عالية باتجاهي، إلا أنها عادت متمايلة في الاتجاه الآخر قبل أن تصرعني. دارت الظلال حول أسوق الأشجار بفوضوية ثم استحالت ثعابين رمادية تسلقت الأشجار واختفت بين الأغصان. في لجة الهلوسة كدت أغيب عن الوعي، إلا أن تيار الأجساد الراقصة والمهللة فرحاً بوصول الوفد الحكومي جرفني معه من دون قدرة مني على المقاومة. سحبني السيل البشري كجذع خشبيٍّ خفيف وألقى بي عند بوابة المدرسة التي تعلوها صورة كبيرة للمارشال بلباس الحرب ونياشين النصر تغطي كامل صدره وبطنه، وخيل إليّ أن حبتي باذنجان أخي البيضاوين تتدليان أسفل بطنه. ضاقت البوابة وعجزت عن تصريف السيل المتجه دفعة واحدة نحو الداخل، فتكومت الأجساد خلف الوفد بمسافة مريحة وراحت تتقاذفني أمواجهم من جهة إلى أخرى، وكان تكدسهم حولي هو الشيء الوحيد الذي منعني من السقوط بين الأقدام. وأخيراً ألقى بي يمُّ الأجساد المتعرقة إلى جانب الطريق، وابتعدت الأصوات المختلطة خلف البوابة وجدار السور.
جثوت على ركبتيّ أشد الهواء إلى صدري وأقاوم الدوار، ثم انطرحت على ظهري بعجز تام، ورحت أحدّق في السماء الزرقاء الموشاة بغيمتين بيضاوين. كان الجزء العلوي من بوابة المدرسة وصورة القائد يقتطعان جزءاً من مشهد السماء، ومدّت بعض الأشجار رؤوسها في حواف المشهد الدائري بفضول. غمرني ضوء مبهر ساخن، لكن شمس الظهيرة لم تكن هناك. بدأ رأسي يدور ببطء، ثم تسارع دورانه واستمر من دون توقف. تعاركت أحشائي وأنذرت بقذف سيلٍ من القيء خارج الجسد المرتجف. دارت السماء أيضاً دورات سريعة كما تدور مياه الصابون في غسالتنا التي تشبه البرميل، دارت الغيمتان أيضاً داخل آلة الغسيل وحسبت أن يديّ أمي ستلتقطهما تباعاً لتعصرهما وتلقي بهما في دلو ماء نقي. دارت البوابة الإسمنتية كأنها إطار خارجي للمشهد، دار كل شيء.. عيناي.. أحشائي… والصندوق الذي تقبع ابنة خالتي في داخله … إلا أن صورة المارشال الكبيرة ظلت متشبثة بمكانها المرتفع فوق البوابة. أذهلني صَلَفُها وشغل ما تبقى من وعيي وتناهت إلى مسمعي زغاريد وصيحات تهليل وتصفيق الحشد، فتخيلت المسؤول الكبير يغيب خلف الستارة الحمراء ويظهر من جديد ممسداً شاربه وعلى سبابته الأخرى بقعة دم يرفعها أمام العيون ويلقي بالصندوق الكئيب في النهر.
ومع تعالي أصوات الضجة البشرية تململ المارشال منتشياً في صورته العالية. نفخ صدره وعلا رأسه عرف أحمر طويل، وراحت حبتا الباذنجان أسفل بطنه تنتفخان وتضربان ببعضهما. استسلمت تماما للمطارق التي ضربت رأسي، وقبل أن أغيب تماماً عن الوعي انفجرت أحشائي بدفق هائل من القيء. كان حامضاً وداكن اللون وتدفق مندفعاً فغطى كل شيء.. أعالي الأشجار المغبرّة والغيمات الملأى بفقاعات الصابون والسماء الملتهبة بلا شمس.. غطى البوابة الواسعة والصورة العالية بنياشينها ونجومها، وغطى لباسي الرملي وعينيّ الغائرتين وحجب الأصوات الصاخبة القادمة من بعييييد.
الأديب خالد أحمد شبيب في سطور:
- قاص سوري من مواليد قرية تيرمعله في محافظة حمص في العام 1982.
- حاصل على إجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها، ويعمل مدرساً في الكويت.
- حصل على عدة جوائز سورية في القصة القصيرة، منها جائزة اتحاد الكتاب العرب وجائزة ربيع الأدب، وجائزة حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، كما حصل على جائزة نيستبي في دراسة الأدب الأمريكي في العام 2005، وجائزة مسابقة مجلة العربي وراديو مونت كارلو في القصة.
- ينشر نصوصه القصصية والمقالات في دوريات ومواقع الكترونية عربية، ولديه مخطوطان لمجموعتين قصصيتين، غير منشورين.
عذراً التعليقات مغلقة