للبلادِ نداءُ الثكالى ولي مسمعي
حين غادرني النومُ
وقض الصدى مضجعي
لي هواكِ الذي استأثر القلبَ حتى سَباهُ
ولي عشق شامٍ يعششُ في أضلعي
لي مكانٌ بها سوف أحتلّهُ
لستُ وحدي هناك بها
إنما تكونين أنتِ معي..
بهذه الشاعرية العالية، والاندياح الآسر، والعشق السّابي لوطنه الجريح، الذي أُجبر على مغادرته، وبكل قلق الشاعر عليه، وتفاؤله بحتمية عودته له وقد حلّت به نسائم النصر والحرية والتخلص من المستبدين، بكل تلك المعاني يكتب الشاعر السوري محمد حاج بكري قصائده، فتأتي صدى لمايكابده هو ووطنه المثكول بأبنائه الذين تساقطوا في ملحمة نيل الحرية.
وقصائد حاج بكري تعتبر صدى لواقع وطنه الذي يعيش به، ولأنه كالنسور يبحث دائماً عن فضاءات جديدة لطيران، فقد تمت ملاحقته من قبل السلطة المستبدة التي تعتبر التحليق جرماً، فجنّدت له المخبرين يتتبعون حركاته وسكناته،كما بقية أصحاب الكلمة الحرة في وطنه، واعتقل في العام 2004، يقول بذلك:
مازال حول البيت ينتشر العسس
في كلّ زاوية عناكب ينسجون..
وهو ملتصق بمعاناة شعبه، فضح استغلال السلطة وشركائها للشعب ونهبهم لثروات وخيرات البلاد، تاركين الشعب فقيرا يطارد لقمة عيشه ليشغلونه عن المطالبة بحقوقه وحريته وكرامته، يقول في ذلك مخاطباً الطاغية المستغل:
ونشرتَ في الطرقات غرباناً تطوف على المواقدِ
تسرق اللّقمَ التي فُتحت لها أفواه أطفالٍ تنام على الأزقة ..
وهو شاعر ذو رؤيةٍ، يستشرف المستقبل، يحدوه الأمل أن فجر الحرية لابدّ قادمٌ، وأنّ الحناجر ستصدح يوماً بهتافات الحرية مثلما يصدح آذان الفجر معلناً ولادة يوم مشرق جديد من زنزانته، ينشد:
لاتتوسد الآهات طيفاً للأحبة
سوف يأتي الفجر حاملاً ثوب الزّفاف
إنه صوتُ الآذان ..
وقد رافقت قصيدته كل مراحل الثورة السورية التي بشّر بها قبل أعوامٍ من زنزانته، فانضمّ إلى نبض الشارع وسار مع ركب الحرية التي تفاءل في بلوغها مبتغاها بتحرير الوطن والمواطن.
ولكن ما أكثرَ ما آلمه مآلات الثورة التي انتهت في كثيرٍ من مشاهدها بالمصالحات وتسليم الثوار للمدن وخروجهم منها، بعد أن فرضت عليهم قوات الطاغية الحصار والتجويع، وبعد خذلان العالم لهم، وقد تكرر هذا المشهد كثيراً وكان في كل مرة يعتصر قلبه الألم والمرارة، وخاصةً عندما غادر الثوار حي الوعر آخر معقلٍ لهم في مدينة حمص والمعروفة بمدينة الشعراء، يقول والأمل لايفارقه بأن الثوار سيعودون يوماً لتحريرها:
في الوعر يلفظ آخر الشعراء في حمص الجريحة روحهُ
ويموت تاريخُ القصيدة
ليس للكلمات عرشٌ بعد هذا اليوم
زرعُ الحربِ أثمرْ..
في الوعر يصرخ نازحٌ بالناسِ
إنّا عائدون..
فيهتف الجمع الغفير بقوةٍ
الله أكبر ..
والتفت الشاعر في خضمّ الحرب إلى الحديث عن تلك التفاصيل الانسانية الصغيرة المؤلمة لتعلقها بالحالة الروحية والعاطفية للانسان، مبيناً أنّ الحرب لم تأتِ على البشر والحجر وحسب، إنما اغتالت في حياة كل منّا تفاصيل وذكريات كانت له في أمكنة ما، حيث طفولته وشبابه، تلك التفاصيل التي لا يقيم لها الطغاة وزناً واعتباراً ولكنها تمثل للانسان جزءً من حياته الروحية، فكيف هي بالنسبة لشاعر؟
لنسمعه يرصد تلك التفاصيل المؤلمة التي هتكت بها الحرب:
كلّ شيء في بلادي جامدٌ
صُبحي، وطعم الهال في فنجان قهوتي الكئيب
قلمي على بلور طاولتي
وأوراقي التي تاقت لألمسها
ومكتبتي ..
وديوان الصديق..
ومن الناحية الفنية فإن ما يميز الشاعر محمد حاج بكري اهتمامه بتوليد الصور الدرامية دون أن يتكأَ على الأفعال الحركية مستخدماُ لتوليد تلك الدرامية أسماءً تحمل تلك الطاقة التي تشيع العاطفة والإحساس لدى المتلقي، إلى جانب الخيال، لنتأمل المقطع التالي:
اخلدْ قريراً
فارتجاف البحر عن فزعٍ
يُولّدُ موجة..
فكلمتا اخلد قريراً لا تنتميان إلى الحيز الدرامي، لكن الشحنة الدرامية تشكّلت من بقية هذا المقطع القصير، فكل كلمة فيه تختزن تلك الشحنة.
ويسعى الشاعر محمد حاج بكري في نتاجه إلى خلخلة التصور الراسخ عن بعض الشخصيات والمفاهبم، ففي قصيدة الذئب يقدم قراءة مختلفة له عما هو سائد في الموروث الثقافي والشعبي عنه من أنه رمز الشر والعدوان والقتل، فيقدّمه على عكس بني البشر الذين يحدثون أذىً وتشويهاً وتدميراً للطبيعة البكر، يقول في قصيدته التي ترك الذئب فيها يتحدث عن نفسه:
أضحكُ ولعابُ الشرٍ يسيلُ
شهوات القتل تفيض علي
..
أشربُ من جرنٍ صخري
لم تعبث به يد البشري
ثم ليُدخلنا بالذئب عالم الأساطير ومدونات الديانات، مظهراً مكانته لدى بعض الشعوب من أنه رمز للقوة والشجاعة والنصر والاستقلالبية والهيبة، يقول:
أعوي في آناء الليلِ
كالناسكِ في المحرابِ
أتلو صلواتي في الكهف
مرسال الآلهة وحديث الشجعان
وحمّال الأسطورة في تاريخ الرومان..
من نسلي خرج الأتراكُ وطافوا في الأرض، وملكتُ بهم بلداناً شتّى..
نحتوا رأسي رمزاً للنصرِ
ملكٌ لا أضع التيجان..
وهو إن قتل، فليس بدافع العدوان وحب القتل بل بدافع البقاء والمحافظة على الحياة، ولذلك اتُّهم بدم النبي يوسف عليه السلام ظلماً، ألم يبرّؤه الله من ذلك؟ (وجاؤوا على قميصه بدم كذب).
وبذلك تبرز المقولة الأساسية لهذه القصيدة التي أرادها الشاعر وهي أن الذئب ليس عدوانياً على الرغم من عدم امتلاكه للعقل والمدارك، وهو لا يقتل إلا دفاعاً عن بقائه، وإن قتل لا يفعل ذلك بأبناء جنسه، على عكس بني البشر الذين يقتلون بعضهم، بدافع الطمع والجشع والعدوان ونفي الآخر، وما الحروب على مرّ التاريخ إلا برهاناً على ذلك، بالرغم من امتلاكهم العقل والتفكير، وكأني بالشاعر يردد أصداء قول الشافعي:
وليس الذئب يأكل لحمَ ذئبٍ
ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
ومن الميزات التي تطبع نتاج الشاعر حاج بكري استلهامه لميثيولوجيا الشعوب وأساطيرها وتوظيفها توظيفاً مناسباً في قصائده كذكر «بعل وعشتار وسيزيف».
وقد بنى قصيدته «سيزيف السوري» على أسطورة سيزيف الإغريقية المشهورة الذي حكمت عليه الآلهة طوال عمره بأن يدحرج صخرةً عظيمةً صعوداً إلى أعلى جبلٍ شديد الانحدار، وعندما يصل قمته تفلتُ الصخرة ليعاود مرة تلو الأخرى الصعود بها إلى القمة، وبذلك اعتبر حاج بكري في قصيدته الشعبَ السوري مثل سيزيف رمزاً للعذاب والمعاناة التي تُمارس عليه من قبل سلطة عليا اعتبرت نفسها بمثابة الآلهة التي لاتُعصى، فالسوري يولد وسط المعاناة والمأساة والعذاب، يقول في هذا:
يُولدُ السوريُّ سيزيفاً
ويكبرُ ..
يجمع الأوطان في خرجِ المآسي
ثم يمضي في سرابْ ..
إلا أن عذابات سيزيف السوري ليست دون طائل أوجدوى كسيزيف الأسطورة، إنما يتابع سيزيف السوري نضاله متحملاً العذابات والمرارات وعسف السلطة مؤمناً بذاته وبأنه سيكون يوماً ما يريد ببلوغه هدفه بالتخلص من الاستبداد ونيل الحرية، يقول في هذا المعنى:
أخيطُ سرابَ هذا الدرب حتى ينتهي
يا موطني .. يا غيمةً أضحت تسافر في المدى
أنتَ انتظاري في المنافي
مثلما في مقلة الأطفال تلمع فرحةٌ، وتُضاءُ أغنيةٌ
لأنّ هناك عيدْ..
ويرفع كأس الفخر بسيزيف السوري لأنه صمم أن يكون ما يريد وعرف الطريق:
كأسٌ لأنكَ لم تكن
إلّا كما قد شئت..
وتحتل مدينته اللاذفية مكاناً هاماً في قلبه وشعره، فهي ليست وحيدة في الوجع والمعاناة من الطاغية المستبد، إنما يشمل ذلك كل الوطن.
إنه يكتب للبحر الذي كان طفله، وتعمّدت روحه بطهره، يكتب له وهو بعيد عنه وعن لاذقيته التي جمعت أهلها يوماً بكلّ أطيافهم على الحب والمودة، ويطلب منه أن يخلصها ويخلص الوطن من هذا الطاغية القرصان الغريب عن مجتمعها الذي أباحها وأباح الوطن للعدوان والمحتل، مخاطباً البحر قائلاً:
اللاذقية طفلةٌ تقتاتُ منك سنينها
فارحم براءتها
يا بحر من أجل المدينة
أهلكِ القرصان في نوٍّ
وبارك للمدينة دفأها
بالصرخةِ الأولى عرفتكَ تستجيبْ..
يابحر لستُ أنا الغريب
ولستَ أنت هو الغريبْ..
والملاحظ في نتاج الشاعر محمد حاج بكري شيوع استخدام مفردات بيئته البحرية مثل (البحر، النّو ، الموجه، المركب، القرصان، الرمال، النورس..)
ويحلُّ عيد الأمّ على شاعرنا وهو بعيدٌ عن أمه ووطنه، فتفيض روحه شوقاً وحنيناً ويستذكر أمه وهي تغني له طفلاً في المهد كي يخلد للنوم، تلك الأم التي هي في إحدى تجلياتها وطنه الذي هُجِّرَ أبناؤه من حضنه فيهمس لأمه بكل شفافية قائلاً:
أنا كلّما أغفو يسوسُ هواجسي في النومِ صوتُ…
أنا لستُ أدري
هل أنا طِرتُ..
تُرى أم أنني غاوٍ حزين؟
لا فرقَ في الأصوات عندي
كلّ أشرطةِ الأغاني نفّرتْ روحي
وراحت تقتلُ الطفلَ المسافرَ في دمي
إلّا صدى صوتٍ وحيدٍ
يقرعُ الأجراسَ في عمري ينادي
«يالله تنام .. يالله تنام».
* * *
الشاعر السوري محمد حاج بكري في سطور:
مواليد مدينة اللاذقية 1977.
درس القانون في جامعة حلب.
يعمل في مجال الصحافة والإعلام، معد برامج ومراسل تلفزيوني.
كتب الشعر والمقال الصحفي ونشرت له العديد من النصوص في الصحف والدوريات السورية والعربية.
شارك في العديد من الفعاليات والمهرجانات المحلية والعربية منها مهرجان اسطنبول الدولي للشعر 2016 ومهرجان صبنجا.
لديه مخطوط لمجموعة باسم (قيامة أخيرة لروح).
عذراً التعليقات مغلقة