القلم الأسود
نص: سليمان نحيلي
هامش أول:
قال جنديّ عجوز ٌ:(ن، والقلمِ ومايسطرون)
كان لا بدّ لهذا القلم أن يظهر إلى الملأِ، بعد خمسين قهراً، كيما يُوقّع ذاك الإتفاق الذي جرى في الظلام.
هل قلت ُ اتفاقاً؟!
عذراً.. أعني خيانةً، ذقنا مرارتها نحن الجنود الذين كنا في الخطوط المتقدمة من الجبهة.
كانوا يتركون مواقعهم، ويفرّونَ عندما أتانا الأمر بالانسحاب، وتركِ والخنادق والسلاح.
نون..كنا المطارِدِينَ، وصرنا المطارَدِين…
نون ..نفّذ ثم اعترض..
عنّف القائد رفيقيَ لأنه غَنمَ سبع خوذاتٍ في المعركة، وأَسرَ جندياً وسلاحه..
نون..صرخ رفيقي بوجه القائد، وأفرغ رشاشه في صدره.
اعتُقل رفيقي وغاب، مضى خمسون عاماً، ومازال في ذمة الغياب..
هامشٌ ثانٍ:
لم يكن سوى حَمَام الجولان الأليف يومها حاضراً، لكن ماذا للحمام أن يفعل إزاء الخيانة وهو لايملك إلا الهديل.. ومن يومها انزوى حمام الجولان يتلو هديله الغريب كالصرخاتِ .. كالعويلِ يتردّدُ صداها في الجبال والسهول..
نون. ..هل أتى حديث ربِّ الجنود…
في المتن:
قال الكاهن الأكبر: لقد تأخرتَ كثيراً.
كان أبوكَ أجرأَ منك وأسرع.. يالكَ من وريثٍ لمْ يرعَ وفاءً لأبيه، سلّمنا جنوب البلاد في ستة أيامٍ ثم استوى على العرش، تاركاً لنا من العتاد ما يكفي مواجهتكم لثلاثة حروبٍ قادمة.
قال الخادم: صحيحٌ، لكنني ياسيدي، حققتُ لكم مالم تحقّقوه في كلّ حروبكم السّابقة..
ماذا صنع أبي غير أنه انسحبَ وترك لكم الجنوب خالياً، و قتل خمسين ألفاً في ليلة سمرٍ واحدة، لم ترضِ ربَّ الجنود.
أنا سلّمتُكم البلاد بطولها وعرضها خاليةً إلا من الدمار .
سلّمتكم الأرضَ بواراً، وقتلت لحضرة ربّ الجنود مليوناً منهم.
جعلتُ شتاتكمُ الموعودَ فيهم، وخالفتُ نبوءاتهم فيكم.
جعلتهم عبيداً والسّياط فوق ظهورهم مشرعة، حجبتُ الأصوات إلا صوتي .. صوتكم، وقطعتُ كل لسان لايلهجُ بحمدي وحمدكم، فقأتُ كلّ عينٍ منهم حاولتْ أن تشدّ الشوق صوب الجنوب، أو تتطلع نحو الشمس، ذبحتُ كلّ حلمٍ فاضَ عن مستوى نعالكم، دمّرتُ مساجدهم عن بكرةِ مآذنها، وحرّقتُ كتبهم، أدخلتُ كلّ ضباع الأرض على أغنامهم حتى سال دمهم كما يسيل مطر المزاريب، رميتُ الرجال في الزنازين والقبور حتى ينقطع نسلهم، ولم أترك في زرعهم عودْ
حتى يرضى ربُّ الجنود ..
أليست تلك وصايا الرّب.؟!
قال الكاهن الأكبر: بلى ..بلى..
لكنّ أباكَ وعَدَنا بالقلم، فأين القلم حتى يرضى الربّ؟
قال الخادم: إنه معي، أعطاني إياهُ أبي وقال: احفظه لليوم المشهود.
ولكنْ أعطاني القلم، ولم يعطني الحبر، فما فائدة القلم دون حبرٍ ياسيدي؟
قال الكاهن الأكبر: نعم، وماذا فعلت؟
قال الخادم: ملأتُه من دمائهم كي يرضى ربُّ الجنود.
قال الكاهن الأكبر: أحسنت .. هذا ما عدنا أبوك
أحسنت.. أحسنتَ يا ملكَ الخدم..
هامشٌ ثالث:
تقول حمامةٌ في الجنوب تحضن بيضها: فعلتَ كل ذلك لكن لن تزحزح الأرض من مكانها، هي الأرضُ تبقى وكل ما فوقها زائل، صار لي خمسين عاماً أحضنُ بيضي ولابدّ يوما ما سيفقس.
هامشٌ أخير:
يقول الجندي العجوز: قتل ملك الخدم كل شيء ظاهرٍ فينا، لكن لم يقدر على النخوة.
عذراً التعليقات مغلقة