أزاح تحقيق أجرته صحيفة “جسر” السورية، الستار عن واحدة من العائلات التي باتت تستحوذ على حصة كبيرة في أوساط المال والأعمال في سوريا، وارتبط اسمها بالعقوبات الأميركية الأخيرة على نظام الأسد، فمن هي عائلة “قاطرجي” ومن أين كسبت ثروتها؟
“حرية برس” ينشر الجزء الأول من التحقيق الذي أجرته الزميلة “جسر”، مع التنويه أن الجزء الثاني منه سينشر لاحقاً متى نشرته “جسر”:
“القاطرجي”: كيف صار “أولاد” الخياط حيتاناً؟
تتصدر أسماؤهم قائمة حيتان المال في سوريا بثروة تقدر بـ 300 مليار ليرة سورية، يملكون ويديرون مجموعة واسعة من الشركات التي تعمل في مجالات مختلفة، ولا يربط بعضها البعض سوى اسم العائلة، يحوزون عشرات البنايات والعقارات الفاخرة، في قلب دمشق وحلب التاريخية، يشترون النفط والقمح من “داعش” و”قسد” على حدّ سواء، ويستوردون البضائع من تركيا، وتخترق قوافل شاحناتهم خطوط الصراع الملتهبة بمنتهى اليسر.
يتبعهم جيش من شيوخ القبائل المستعطين، وينفقون على ميلشيات عسكرية، أو يديرونها بأنفسهم في معظم مناطق الصراع في سوريا، وترعى مجموعتهم حفلاً لتزويج عناصر الجيش السوري، يتصدره صورة لبشار الأسد مصافحاً “حسام قاطرجي”، عضو مجلس الشعب، الذي يوجه دعوة لحضور العرض الأول لفيلم أنتجته مجموعته التجارية، وأخرجه رئيس مجلس الشعب، نجدت أنزور، بعنوانه يشير إلى إيديولوجيا متطرفة في عدائها للدين الإسلامي “ردّ القضاء”، وينهي دعوته بالقول إنه هديّة للشعب السوري، بمناسبة عيد الميلاد المجيد.
الخروج من “الباب”
في نهاية خمسينيات القرن الماضي، غادر بلدة الباب الواقعة شمال شرق حلب الخياط بشير قاطرجي مع أولاده الصغار، وحطّ الرحال في الرقة، التي كانت يومها قرية كبيرة يقطنها نحو 25 ألف ساكن، غالبيتهم من العشائر العربية التي استقرت حديثاً على ضفاف الفرات، وتأنف من العمل في الحرف اليدوية، مؤثرة رعي المواشي وزراعة الأرض.
استأجر بشير منزلاً في زقاق ضيق بشارع المنصور، من وجيه محلي من قبيلة البوسرايا يدعى كحم المخلف، ودكاناً في ”كراج الجعب” بشارع سيف الدولة، اتخذه مشغلاً لخياطة الأجواخ. ولأن نخب المنطقة كانت تجد مشقة في السفر إلى حلب، في كلّ مرّة يريد فيها “تفصيل” ملابسهم، فقد وجدوا في دكان أبي النور”بشير قاطرجي” ضالتهم، وصار دكانه مكاناً للقائهم.
تأثر ابنه البكر أحمد، الذي كان طفلاً حينها، بالأجواء العشائرية وتعلق بها، فأقبل على حفظ الأنساب وأنواع الأحاديث المتداولة في تلك البيئة، ولاحقاً سيصبح أحد الرواد الدائمين لمضافات العائلات الكبيرة في الرقة، يرتدي زيّهم، ويتحدث قصصهم، ويشاركهم الأحاديث التي سمعها بنفسه من الشيوخ والوجهاء في دكانة أبيه، الذي كان عموده الفقري أيضاً، فهو أفضل من يعمل على “الدرزة” في المنطقة كلها.
ارتبط أحمد بشير قاطرجي في الرقة بعائلتين بشكل كبير، هما آل الهويدي، شيوخ قبيلة العفادلة، كبرى قبائل الرقة، الذين اشهروه كخياط للنخبة فيها، وآل العجيلي، أقارب الدكتور عبد السلام العجيلي، الذين لجأ إليهم ليكتسب نسباً يعينه على الثبات في تلك البيئة التي تحدد مكانة الفرد بشكل صارخ من خلال هويته القبلية، فأحمد استطاع أن يقنع من حوله بنسبته إلى قبيلة “البقارة” الكبيرة، التي ينتسب لها “آل العجيلي” أيضاً.
توفي أحمد بشير قاطرجي في بداية الألفية الثالثة، تاركاً لأبنائه منزلاً من أربعة طوابق عند دوار النعيم الشهير في الرقة، ومشغل خياطة ومحلاً لبيع الأجواخ في مكان مميز بشارع المنصور، هو مدخل عبارة الزيات، إضافة إلى عدد كبير من المعارف المميزين، وزرع فيهم ولعه بالتراث والثقافة القبليّة، التي كانت رأس اهتماماته، ولا ينافسها سوى شغفه برجل الدين الصوفي “محمد توفيق عجان الحديد”، الذي كان أحد مريديه، ولا يكاد يتغيب هو وأخوته وابنائه عن حضرة من الحضرات التي يقيمها في زاويته بشارع القوتلي.
الأسرة: ثلاثة في واحد
يتردد كثيراً اسم “القاطرجي” اليوم، كما لو أنه شخص واحد، لكن أكثر من عشرة مصادر أهلية وعائلية مقربة منهم أجمعت على القول بخلاف ذلك، وأكدته في الوقت عينه. فأولاد أحمد بشير ثلاثة:
-محمد براء: ويدعى براء اختصاراً، من مواليد الرقة 1976، أفاد شخص زامله في الخدمة الإلزامية إنه يكتب اسمه بصعوبة، فقد تسرب باكراً ليتعلم خياطة الأجواخ ويعمل في مشغل “المدينة المنورة” العائد لوالده.
-حسام: عضو مجلس الشعب ورئيس مجلس إدارة مجموعة القاطرجي، الوارد اسمه في العقوبات الأميركية، تشير بياناته في موقع مجلس الشعب إلى أنه من مواليد الرقة 1982، ولا تذكر أي شيء في خانة المؤهلات العلمية.
محمد آغا: يذكر موقع الاقتصادي السوري أنه من مواليد 1991، ولا يوجد ما يشير إلى تلقيه تعليماً ما.
والأشقاء الثلاثة مرتبطون فيما بينهم بثروة أبيهم المتواضعة التي كانت أساس صعودهم، الذي ما كان سيتحقق لولا نزعة “الأخ الأكبر” للمغامرة، وشراهته للمال والنفوذ. ولهذا فإن “أولاد القاطرجي” هم في الحقيقة “عرّاب” واحد: “محمد براء”.
حلب: سمسار برعاية ضابط في القصر الجمهوري
ما إن توفي الخياط أحمد بشير، حتى باع براء وعائلته منزلهم في الرقة، لرجل دين سلفي، بمبلغ تفاوت تقديره بين مصادرنا، لكنه تراوح بين 13 و25 مليون ليرة سورية، (مايساوي 500 ألف دولار بسعر الصرف حينها)، فيما تم تأجير المشغل لخياط يدعى رياض عميرو، لكن لافتة المحل ما تزال تحمل عبارة (أجواخ المدينة المنورة. بإدارة حج احمد بشير قاطرجي)، ورحل الاشقاء الثلاثة، الذين كان عمر أكبرهم دون الثلاثين، وأصغرهم دون الخامسة عشرة، إلى حلب، التي توصف بأنها العاصمة الاقتصادية لسوريا.
اشترت العائلة بيتاً قديما متهالكاً قرب قلعة حلب، يمنع تغيير مواصفاته باعتباره يقع في نطاق المدينة التاريخية، لكن براء استطاع أن ينتزع موافقة مديرية الآثار والمتاحف في محافظة حلب، لتغيير مواصفاته، من خلال وساطة ضابط في القصر الجمهوري، من الطائفة العلوية، ترجع معرفته به إلى أيام والده في الرقة، إذ قام بافرازه للخدمة في محافظته الرقة، وهو أمر ممنوع قانوناً، لكن ضباط الدائرة الضيقة بوسعهم اختراق هذا القانون، كما غيره، فيما لو تم دفع المبلغ المناسب.
وطد براء علاقته بهذا الضابط، الذي لم تستطع المصادر تحديد اسمه، ويبدو أنه من دائرة الحماية الشخصية المباشرة لبشار الأسد، لأنه تمكن من جلب الأخير في احدى زياراته لحلب لتناول المأكولات الحلبية التقليدية في مطعم براء سنة 2006، على ما يتذكر مصدر مطلع.
وفي هذه السنة أصبح براء قبلة الباحثين عن “الاستثناءات” و”الوساطات” و”الرخص” في منطقة حلب القديمة، وعمل كسمسار للعديد من ضباط القصر الجمهوري الذين وسع معارفه وعلاقاته بينهم بسرعة كبيرة، متودداً إليهم بالهدايا والرشى، وتضاعفت ثروته، ليتمكن من شراء خان قديم إلى جانب مطعمه، بمبلغ 70 مليون ليرة سورية، وبعد تعديل أوصافه وبنائه من جديد، تضاعف ثمنه.
دمشق.. مضافة للسمسرة زبائنها شيوخ العشائر
فجرت صحيفة الأخبار اللبنانية قنبلة، في عددها الصادر يوم السبت 16 كانون الأول سنة 2017 عندما نشرت تحقيقاً عن صفقات ومخالفات براء قاطرجي في سنة 2010، مدعوماً بصورة محضر تحقيق مؤلف من 18 صفحة، ملخصه، أن براء ساهم بتغيير أوصاف بناء أثري من طبقة واحدة وتحويله إلى بناء من خمسة طوابق، عبر الحصول على موافقة غير قانونية من مديرية الآثار والمتاحف في حلب، تحمل الرقم 4409 بتاريخ 2 أيار 2010، مقابل الحصول على مبلغ مليوني ليرة سورية (نحو 40 ألف دولار وفق سعر الصرف في تلك السنة)، كما يفيد الضبط بأن براء كان يشغل في هذا المجال مجموعة من السماسرة الفرعيين، ومدراء وموظفين حكوميين، بغطاء من شخص أو جهة عليا. وسنعود إلى حيثيات هذا التحقيق ونتائجه لاحقاً.
لكن مصدراً آخر أفاد لـ”جسر” بأن براء قاطرجي كان يدير صفقاته في حلب من دمشق، فالشاب الذي تتبع خيوط شبكات الفساد صعوداً من الرقة إلى العاصمة الاقتصادية حلب، لا بد له أن يكمل مشواره إلى العاصمة الأمنية والسياسية، حيث يتزاوج المال والسلطة بالطريقة المعروفة جيداً في البلدان المحكومة بديكتاتوريات فاسدة. افتتح براء وشقيقيه في دمشق مكتباً “للتجارة العامة” في ظاهره، ومقراً لإدارة الصفقات السريّة في الواقع. ومع أن الشاب الذي كان حينها في أوائل الثلاثينيات غاص في شبكات الفساد شديدة التكتم، ولم يعد بوسع دائرته الاجتماعية ملاحقته أو معرفة الكثير من أخباره، إلا أن رائحة صفقاته كانت تفوح من مكتبه، فهو يستطيع نقل أي مجند إلى محافظته بمبلغ يوازي 3-4 آلاف دولار، والحصول في الوقت عينه على قروض هائلة من مصارف القطاع الحكومي، لأشخاص لا يحوزون أي ضمانات تقريباً، بعمولة تبلغ 5% من القيمة الإجمالية للقرض.
وكان معظم زبائنه في تلك الفترة من شيوخ ووجهاء الرقة، الذين يؤلفون شبكة مع شيوخ ووجهاء منطقة شمال شرق سوريا، فافتتح مضافة لاستقبالهم في دمشق، قرب مشفى المواساة، ووظف فيه طباخين وعمال يقومون على خدمتهم ليل نهار. بينما قطن هو وعائلته بناية حديثة كاملة، في منطقة كفر سوسة.
القفز فوق أسوار قصر “الشعب”
حتى سنة 2013، كان براء القاطرجي وشقيقاه يحومون حول دائرة الحكم الضيقة في دمشق، ويتعيشون من الفتات الذي يلقى إليهم من داخلها، دون أن يتاح لهم فرصة اختراقها، إلى أن جاء صيف 2013، وسيطرت فصائل من الجيش الحر على صوامع الحبوب في الرقة، وأخرى على صوامع دير الزور، ووقع النظام في حالة عجز عن توفير رغيف الخبز لمؤيديه. وبعد أن أخفق عدة مرات في شق الطريق إلى تلك الصوامع عسكريا، بدأ البحث عمن يشتري له كميات الحبوب من الفصائل، وهنا تدخل مسؤول الحماية الشخصية لبشار الأسد، وابن عمته، ذو الهمة شاليش، ليقترح اسمي أحمد جريخ، و”رجل الأعمال الشاب” براء قاطرجي. وتقول مصادرنا، أن الفضل في هذا الترشيح يعود أيضاً للضابط نفسه، الذي رعى صعود “القاطرجي” في حلب.
وأحمد جريخ هو عضو مجلس الشعب من حلب، تشير بياناته في موقع المجلس إلى أنه من مواليد حلب سنة 1948، وأنه حاصل على الشهادة الابتدائية. وقد انتدبه النظام مع براء قاطرجي، لاستجرار الاقماح من الرقة ودير الزور، بسعر السوق الداخلي، الذي يكافئ ربع سعر القمح الأوكراني في السوق العالمية. وبعد مضي نحو شهر من الزمن، كان ثمّة مركزان كبيران لاستلام وشحن الأقماح يعملان بشكل محموم في مدينة تدمر، حيث يتم استقبال شاحنات القمح القادمة من الرقة وارسالها إلى مختلف المناطق التي مازال النظام يسيطر عليها، لكن بعد مضي مدة وجيزة، وجد الجريخ نفسه بلا أي وكيل محلي يشتري له القمح، فقد استقطبهم براء جميعاً، بفضل علاقاته ونفوذه في الرقة، فانسحب الأول، وتولى الأخير إتمام العملية منفرداً.
مع حلول صيف 2014، وبعد أن غدت شركة “القاطرجي” مصدر رغيف الخبز في مناطق سيطرة النظام، ظهر تنظيم داعش، وهيمن على معظم المحافظات الشرقية، ومنع كل أنواع التعاملات التجارية مع نظام الأسد. لكن براء لن يجد صعوبة في تذليل هذه العقبة، وتمكن عن طريق معارفه، وبالتنسيق مع مخابرات النظام، من ابرام اتفاق ينص على استحواذ داعش على 20 بالمئة من القمح الذي يشتريه في الرقة، مقابل السماح له بنقله بحرية إلى مناطق النظام، وعادت عجلة العمل للدوران، مع تفصيل إضافي، تمثل بشحن مخزون القمح الذي تسيطر عليه بقايا قوات الأسد في الحسكة نحو تدمر، مروراً بمناطق سيطرة داعش، ومقابل اقتطاع الخمس منها أيضاً.
وفي هذه الجزئية، يتهم مطلعون القاطرجي باستبدال القمح عالي الجودة، التي تشحن من صوامع الحسكة، بقمح لا يصلح سوى “علفاً” للحيوانات، يشتريه وكلاؤه في الرقة بثمن بخس، ويسلمها لمؤسسات النظام، التي يعاود بيعها القمح عالي الجودة بأسعار مرتفعة جداً، وهو ما سمح له بمضاعفة أرباحه ورأس ماله بسرعة كبيرة….
(يتبع في جزء ثان..)
عذراً التعليقات مغلقة