لم تستطع روسيا الاتحادية وهي الوريث الشرعي والوحيد للاتحاد السوفييتي بحكم كونها أكبر دولة وأكثر المساهمين فنياً وبشرياً في اقتصاده اللينيني الماركسي والقائم على فكرة الملكية العامة لوسائل الإنتاج، لم تستطع أن تخرج عن طريقته في إدارة ملف العلاقات الخارجية ومقاربته لكيفية توسيع النفوذ والهيمنة والنظر دائماً إلى كيفية إثبات عظمة الدولة ومقدراتها الاقتصادية والعسكرية كقطب يفرض نفسه على العالم، من خلال موازين القوة العسكرية الصرفة التي لا تستند إلى مقومات اقتصادية تساعدها على الثبات والديمومة.
ولم يشكل تدخلها الصارخ في الثورة السورية خروجاً عن هذه القاعدة، مع أنه بدى كتدخل الضباع لالتهام فريسة عفت عنها الكواسر الأشد قوة وتأثيراً، فقد اقتصر تدخل روسيا في البداية على الدعم السياسي واللوجستي بتقديم قطع الغيار والذخائر وبعض التجهيزات العسكرية، وعندما لاحظ الروس عدم اكتراث الغرب والولايات المتحدة بما يجري وعدم تدخلهم مباشرة في هذا الشأن، رمت روسيا بكل قوتها العسكرية في منتصف العام 2015 لوقف تهالك نظام الأسد وتلاشي سيطرته، والذي بدا وكأنه قاب قوسين أو أدنى من السقوط التراجيدي المدوي.
أدركت روسيا أن النظام في هذه المرحلة الحرجة سيتخلى عن كل مقدراته الاقتصادية والسيادية في سبيل البقاء في الحكم، لأي كان يمد له طوق النجاة، ورأت أن الفرصة سانحة لذلك، تبعاً لمواقف الدول الغربية التي أدارت ظهرها للسوريين وحقوقهم، وإلحاح إيراني وتعهد بتقديم الدعم الأرضي الميلشياوي المساند، وتوفر التمويل اللازم للتدخل الجوي والأرضي واللوجستي من بعض الدول المارقة التي شعرت أن أي ثورة شعبية عادلة ستطال تداعيتها كل غث وسمين من رؤساء وأمراء الوكالة الحاكمين بأمر الطواغيت. وساعدها في ذلك تاريخ من العلاقات مع النظام الحاكم منذ عشرات السنين، قائم على صداقة مصلحية بحتة يتيح لروسيا موطئ قدم في أكثر المناطق استراتيجية في العالم.
الثابت والمؤكد أن منظري النظام وأبواقه يعلمون أن التدخل الروسي لم يكن لدوافع انسانية أو قانونية، وأنه ما كان إلا لأهداف استراتيجية قائمة على الهيمنة والنفوذ في منطقة بدأ نفوذه بالتآكل فيها، لا سيما بعد خسارته لحليفين أساسيين هما العراق وليبيا.
لم ولن يكن الزواج بين الروس والنظام كاثوليكيا كما لم تكن العلاقة بينهما على أسس ثابتة من الصداقة والمنفعة المتبادلة و العادلة، بل هي ليست أكثر من عقد متعة مؤقت وضرورة مرحلية أملتها المصالح الروسية العليا، بعد تقارير سرية أكدت وجود مخزونات ضخمة من الغاز والنفط في المياه الاقليمية السورية، هذا غير الثروات السابقة من النفط والفوسفات والغاز والبيئة الاستثمارية والسوق الواعدة، وأهم من كل ذلك مياه المتوسط الدافئة وتوق روسيا الدائم لأن تدلي أقدامها المتجمدة فيه، والتي أثبتت أنها مستعدة للمغامرة وتحدي العالم في سبيل ذلك، وقصة القرم ليست بعيدة.
لم تكن المراهنة على الحكومات الديكتاتورية مجدية في يوم من الأيام ولأي كان وقصص التاريخ تشهد بذلك، ولن تكون مراهنة روسيا على نظام الأسد المجرم ثابتة ودائمة، خاصة لدولة قوية تطمح للديمومة والبقاء.
كان أجدى بدولة كبيرة أرادت أن تقف في وجه الغرب الذي لا يهمه إلا السيطرة كما تدعي، وبدل أن تناصر الظالمين وتعمل آلتها التدميرية قتلاً وتنكيلاً لبقائهم، أن تراهن على علاقتها بالشعوب التواقة للحرية، لأن الأحرار وحدهم من يلتزم بالعهود والأحرار، ووحدهم من سيبقى ومن سيسود، فلا ميثاق لطاغية ولا عهد لظالم، ولن تنسى الشعوب المقهورة حقوقها، ولن تلتزم بأي عهد أو عقد وقعه الطغاة نيابة عنها.
عذراً التعليقات مغلقة