لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية قوة فاعلة ومؤثرة في مجمل القضايا الدولية عندما تريد ذلك، لكن على امتداد سنوات الثورة ثم الحرب في سوريا، لم تكن هناك ملامح واضحة أو محددة لسياسة واشنطن في هذا البلد رغم حضورها “بوقت مبكّر” في المشهد السوري لما بعد مارس/ آذار 2011 ولم تتوقف تدخلاتها متعددة الأشكال، سواء على المستوى السياسي بدايةً ثم العسكري في وقت لاحق وصولاً لإنشاء قواعد عسكرية شرقي نهر الفرات.
التخبط في الأداء الأمريكي واتخاذ وضعية “المراقب الصامت” في عدة مناسبات، وغياب استراتيجية معلنة حيال الملف السوري خلال السنوات الماضية، بدا وكأن الولايات المتحدة الأمريكية لا تولي اهتماماً جدياً للمسألة السورية، وعلى ذلك وجد اللاعبون الآخرون وفي مقدمتهم روسيا وإيران وتركيا الفرصة مواتية للتدخل وفرض معادلات تناسب مصالحهم في سوريا، مما أدى إلى نجاحهم في تغيير الواقع الميداني وتشكيل معطيات جديدة تلائمهم ثم اختراع مسارات سياسية (أستانة وسوتشي، واتفاقيات خفض التصعيد والمصالحات) تكّرس هذه المعطيات لتكون بديلاً عن العملية السياسية حول سوريا التي انطلقت برعاية الأمم المتحدة في جنيف يوم 30 حزيران/ يونيو 2012.
انجازات محور أستانة ما كانت لتتحقق لولا الصمت الأمريكي عنها، والذي كان يفسّر على أنه نوع من القبول الضمني لما يقومون به، لكنَّ الحفاظ عليها وتثبيتها من أجل حصد مكاسب طويلة الأمد، لن يكون بالأمر السهل دون الرضا الأمريكي، وقد بدا ذلك واضحاً بعد تهديد المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا “جيمس جيفري” مطلع الشهر الجاري والذي وضع مساري “أستانة وسوتشي” على المحك، حيث أعلن أن الولايات المتحدة الأمريكية، ستنهي هذين المسارين وتعيد تفعيل دور الأمم المتحدة في حال عدم تشكيل “اللجنة الدستورية” قبل حلول تاريخ 15 كانون الأول الجاري، تبع ذلك إعلان هيئة التفاوض السورية “سحب الشرعية من مسار أستانا” رغم مساهمتها في جزء مهم من ذلك المسار، وكذلك البيان الختامي الصادر عن القمة الخليجية في الرياض يوم 9 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، الذي أعاد المسألة السورية إلى مقررات مؤتمر جنيف، متجاوزاً كل المؤتمرات الأخرى كسوتشي وأستانا، حيث جاءت التوصيات الخليجية بخصوص الملف السوري صدى للتحركات الأمريكية، فقد جاء في البيان الختامي تحت بند “سوريا” التأكيد على الحل السياسي وفق مبادئ جنيف1 ، وتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم ” 2254 ” القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالية تتولى ادارة شؤون البلاد، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات برعاية أممية، وأدانت دول مجلس التعاون الخليجي، التواجد الايراني في سوريا وطالبت بخروج القوات الايرانية وميليشياتها الطائفية وميليشيا حزب الله من سوريا.
هذه المواقف لواشنطن وهيئة التفاوض السورية وبيان القمة الخليجية، شكلت موقفاً سياساً موحداً لحصار دول محور أستانة التي سارعت للإعلان عن الموافقة على تشكيل “اللجنة الدستورية” قبل يومين من انتهاء المهلة التي حددتها الولايات المتحدة حيث قالت أن تشكيل اللجنة سيعلن خلال اجتماع وزراء خارجيتها المرتقب في جنيف يومي 18 و 19 كانون الأول / ديسمبر الجاري. ويلاحظ أن هذه الموافقة قبل تقديم “دي ميستورا” إيجازه الأخير الى مجلس الأمن في 20 الشهر الجاري ، جاءت لسحب البساط من تحت واشنطن وقطع الطريق على نيات التصعيد الأمريكي التي لوّح بها “جيفري”، حيث تعمل الأمم المتحدة على تشكيل “اللجنة الدستورية” على أن تتشكل من 150 شخصاً على النحو التالي، 50 شخصاً يختارهم النظام، 50 شخصاً تختارهم المعارضة، و50 شخصاً تختارهم الأمم المتحدة من خبراء وممثلين مستقلين للمجتمع المدني.
وكانت الجولة الحادية عشرة من محادثات أستانة بين النظام والمعارضة السورية مطلع الشهر الجاري، انتهت دون التوصل إلى اتفاق حول تشكيل تلك اللجنة، حيث يرفض النظام وحلفاؤه قائمة المجتمع المدني، كونها ستكون من المستقلين وستطالب بقضايا الديمقراطية والتمثيل العادل وتداول السلطة، وبالتالي فإن تشكيل اللجنة “بالثلثين” ثلث للمعارضة وثلث للمستقلين، يعني تغييراً جذرياً ببنية نظام الحكم في سوريا.
تغيير مسارات الأحداث ودفعها إلى الوجهة التي تريدها واشنطن بعد أن تكون جهود كل الأطراف قد استنفذت أو تكاد، هي الاستراتيجية التي يعمل بها المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا “جيمس جيفري” في سوريا والمنطقة مع تركيز خاص على إيران وتركيا والعراق، انطلاقاً من نقطة التحكم في منطقة “شرقي الفرات” الاستراتيجية في سوريا، فالرؤية الأميريكية لا تقتصر على المعطيات المحلية في سوريا والحل السياسي بهذا البلد؛ وإنما تندرج ضمن إطار استراتيجي أوسع يضع في حسبانه مجمل السياسة الأمريكية تجاه المنطقة والقوى الدولية والاقليمية الفاعلة فيها، وبالتالي مراجعة ما قام به اللاعبون الآخرون على ضوء ما تتطلبه مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، والعمل على تقويض ما اعتقد الروس والإيرانيون والأتراك أنهم نجحوا في تحقيقه سياسياً وعسكرياً في سوريا، ويريدون فرضه على المجتمع الدولي وواشنطن التي وضعت عناوين رئيسية للسياسة الأمريكية في سوريا والمنطقة أهمها مواجهة إيران وإخراجها من سوريا، والقضاء على داعش، وتحقيق الاستقرار في مناطق شرقي نهر الفرات.
من يعتقد أن اختيار الولايات المتحدة لمنطقة شرقي الفرات والسيطرة عليها بسبب النفط والغاز فحسب؛ يجانب كثيراً من الصواب، فذلك قد يكون جزءاً من الكل الذي تسعى له الإدارة الأمريكية لتمويل الموالين لها. فالتموضع الأمريكي شرقي الفرات هو “نقطة تحكّم، وبديل” بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، بديل للعراق الذي لن تتخلى عن نفطه وإن ابتعدت ظاهرياً، ومركز تحكّم بإيران، من خلال إغلاق الحدود العراقية السورية وقطع الطريق البري عليها باتجاه سوريا ولبنان وصولاً للبحر المتوسط عندما يتطلب الأمر ذلك، ونقطة ضغط على تركيا من خلال تحريك الورقة الكردية التي تؤرق أنقرة والتي لم تتضح مآلاتها حتى الآن، إذا ما حاولت تركيا أن تغرد خارج السرب الأمريكي، والأهم من ذلك وضع حدود لمساحة تحرك روسيا، لا يمكن لموسكو أن تتخطاها.
فصل جديد من التخبط، هذا ما ستجيب عنه الاستحقاقات المقبلة في الأشهر القليلة القادمة.
عذراً التعليقات مغلقة