ليست رسالة عتب كما أنها ليست رسالة لوم إنما هي كلمات من قلبٍ شعر للحظة أن يداً معدنية تعصر قلبه وعندما نظر صاحب القلب إلى وجه صاحب اليد وجده أحد الأصدقاء الأعزاء جداً.
أحببت كوكب حمزة كثيراً في أول لقاء جمعني به عند الصديق الأجمل إسماعيل فهد إسماعيل، كان ذلك قبيل سقوط طاغية العراق صدام حسين حيث كانت الكويت تستقبل يومها الكثير من وجوه المعارضة العراقية خاصة ممن كانوا قد حصلوا على جنسيات أوربية، وتزايد هذا الأمر بعد سقوط بغداد .
في تلك الأيام كان إسماعيل فهد من حيث كونه (صاحب النصيفة) _ فنصفه عراقي والنصف الثاني كويتي _ يلعب دور الوسيط دون تكليف رسمي لتطبيع العلاقة بين الشعبين الكويتي والعراقي، في تلك الأثناء كان العراقي صاحب حلم، كان ضحية استبداد وكان ينجذب إلى من يناصره تماماً كما نفعل نحن السوريين اليوم.
يومها غنى كوكب “ياطيور الطايرة” بصوته، وتلك حالة نادرة أن يغني كوكب وهو من يحمل على كاهليه إرث العراق الغنائي، فثلث الأغاني العراقية التي كنا وما زلنا نستمتع بها كانت من ألحانه، ومع توالي لقاءاتي به في الأعوام التالية في بيت إسماعيل أو في مكتبه أو في دمشق ذات أمسية من أمسيات بيت القصيد كانت محبتي لكوكب تتعزز وتزداد حتى في لقاءاتنا الأخيرة في الكويت العام الفائت كان كوكب يزداد قرباً من القلب، لماذا كنت تقترب من القلب كثيراً ياصديقي؟
أحببتك ملحناً، أحببتك صديقاً ثائراً ضد الظلم والتخلف، أحببتك عراقياً في وقت تخلى الكثير من العراقيين عن عراقيتهم، أحببتك باحثاً عن الجمال في عالم يسوده القبح.. أحببتك محباً لسوريا بل عاشقاً لها.
في آخر سهرة في بيت الصديقة حنان الغربي أتيت بك من بيت صديقنا الأجمل إسماعيل الذي حذرني من التدخين بحضورك وأخبرني بمدى مرضك الجسدي، وقد عملت بتحذيرات أبي فهد، حكيت لي في الطريق عن رحلتك إلى سوريا وزيارتك لحبيبة قلبك اللاذقية ومنها إلى مدينة الجميلين ( السلمية)، في السهرة عبرت لي عن شوقك لسوريا حتى أشعرتني أنك سوري، عبرت لي عن رغبتك العارمة بأن تقضي أواخر أيامك في دمشق وعن قرارك بالعودة إلى دمشق، في تلك اللحظة بالذات لم أشعر بك عراقياً، شعرتك شآمياً من دمي ولحمي.. لكني قلت في نفسي يستطيع الذهاب إلى وطني المحتل دونما خوف، فهو في نهاية الأمر عراقي، لن تعتقله مخابرات طاغية الشام ولن يتعرض له أحد بأذى ولا ضير أن يتعافى من مرض الحنين الذي سيقضي عليّ أنا السوري ذات يوم.
وذهبتَ.. واستقبلتْكَ دمشقُ، وربما شعرتُ أنا بشيء من الطمأنينة عندما استقبلك أخو الشهيد الشاعر والروائي الجميل والذي بكل تأكيد يعرف من اغتال أخاه في بيته بعيداً عن رواية مخابرات طاغية الشام.
هل تعافيت يا صديقي من مرض الحنين؟ وهل تلاشت أشواك الشوق من قلبك؟ هل شممت ريح دمشق فارتد إليك بصرك؟ فقميص دمشق يا صديقي كقميص يوسف، الفارق فقط أن يوسف لم يكن في الجب عندما شمّ أبوه قميصه في حين أن دمشق ماتزال غارقة في مياه الجب الآسنة. فلماذا استبدلت بصيرتك ببصرك؟ ولماذا مددت يدك المعدنية من شاشة طاغية الشام لتعتصر قلبي؟ هل صدقتهم حقاً عندما قالوا لك أنت (أعز الناس)؟
سأخبرك بسر صغير ياصديقي أظنك تعرفه أكثر مني.. هم لم ينظروا إلى كوكب حمزة الملحن، فالغناء لا يعنيهم في شيء وأنت تدرك هذا، وربما عرفت المذيعة كوكب حمزة فقط من خلال غوغل أثناء إعدادها للبرنامج وعرفت أنك الملحن المشهور، قبل ذلك أنت بالنسبة لهم أحد العراقيين الذين أسهموا ببقاء طاغيتهم على كرسيه، هم فقط يتملقون مجموعة الميليشيات التي باتت تحتل جانباً كبيراً من البلد، البلد الذي اضطرك شبيهه للهجرة، البلد الذي أجبر أشباهك من أبنائه للهجرة وعرضهم لكل أنواع القتل.
أذكر أني وقفت موقفاً حازما من زيارة رغدة وأمثالها للعراق، واذكر مواقف أحرار العراق من هذه الزيارة، فهل كانت رغدة وأصحابها على حق في حينها أم أن لك رأياً آخر في سؤال البصيرة؟
تبقى سوريا بلدك ياصديقي لكن مكانتك تجدها في قلوب السوريين وليس على شاشة طاغيتهم..
يؤلمني كثيراً أن يكتب التاريخ أن كوكب حمزة كان من أوائل المطبعين مع نظام القتل والإجرام.
يؤلمني كثيراً أن أراك على شاشة كانت وما تزال لسان حال القتلة والمجرمين، هم بحاجة أمثالك من النبلاء لتبييض صفحتهم، هم بحاجة ماسة لأمثالك من الشرفاء كي يزيد رصيدهم قليلاً بين البشر، أما أنت فما حاجتك إليهم؟ وأنت الزاهد بالإعلام والشهرة. ماحاجتك إليهم وأنت الغني بما لديك من رصيد إنساني وفني؟!
يؤلمني كثيراً ياصديقي أن تحتفل بك شاشة طاغية كانت وما تزال أداة جريمة بيد مجرم.. أما رأيت بعينك وأنت تدخل ردهات المبنى آثار الدماء وأشلاء القتلى؟ أما تعثرت بجثة أخي وطفلته ومليوناً من الشهداء وأنت تخطو باتجاه الاستديو؟
كيف استطعت العبور إلى الكاميرا وسط ركام مئات آلاف البيوت المهدمة على ساكنيها؟ وعندما خرجت من المبنى ألم تمنح السماء التفاتة صغيرة كي ترى بأم عينيك ملايين الطيور الطايرة وهي تهرب من الموت؟
كل ما أرجوه وآمله ياصديقي ألا تقول لي في لقائنا القادم _إن صدف وحدث_ أن السوريين هم من دمر البلد وأن جيش النظام قد حافظ عليه من التقسيم، وأن الثورة ثورة إرهابيين، لأنك إن فعلت سأؤمن حقاً أن الفن يمكن أن يكون مخادعاً وأن النخب الثقافية يمكن أن تكون بألف وجه، وسأعترف أني ضحية تقية وأن من كنت أسميه صديقي ليس أكثر من يد معدنية باردة تتخفى بقفاز حريري ناعم، تحينت فرصتها لتستمتع بعصر قلبي.
عذراً التعليقات مغلقة