منذ منتصف القرن الماضي، لم يعاني أيُّ بلدٍ من خسائرٍ فادحةٍ في الأرواح البشرية، والدمار العمراني والاقتصادي، مثلما عانت وتعاني سوريا. وبات واضحاً للجميع بأنَّ المسؤولية كاملةً عن وقوع هذه المأساة، تقع على عاتق نظام الأسد، وحليفتيه روسيا وإيران، بجرائمهم وحربهم الشنيعة التي أودت بأرواح مئات الآلاف من المدنيين السوريين.
من سيمول إعادة الإعمار؟
لعبت كل من روسيا والولايات المتحدة وتركيا وإيران، فضلاً عن الصين والاتحاد الأوربي دوراً في الصراع السوري، ولكن لم يتضح حتى اللحظة موقفهم بشأن إعادة الإعمار، وهل سيقدمون المساعدة في هذا المجال، أم أنه سيخضع لتسويةٍ سياسيةٍ نفعية اقتصاديةٍ عليهم تستنزف الثروات الباطنية والعُمَّالية السورية لعقود قادمة؟.
لا يزال الصراع العسكري قائماً في عدة مناطق في سوريا، وهناك خطر يتهدد اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا، الذي أبرم في أيلول الماضي، مع وجود ملايين السوريين كلاجئين خارج حدود بلدهم، ونازحين في الداخل السوري، وأغلب هؤلاء في مخيمات النزوح واللجوء المنتشرة على الحدود السورية.
منذ شباط الماضي ونظام الأسد يقوم بتسويق نفسه صاحب القرار في ملف إعادة الإعمار، وأنَّ سوريا باتت جاهزةً لمزاولة الأعمال العمرانية والاقتصادية، والمستفيد الأكبر من هذا الملف هما أقرب حليفين لنظام الأسد، روسيا وإيران، مع الأخذ بعين الاعتبار رغبة الصين في الاستفادة من أي صفقات يوقع عليها الروس، بموجب مساندة الصين لأي فيتو تقرر اتخاذه روسيا في مجلس الأمن، اتجاه أي قرار يتم التصويت عليه من الأعضاء الدائمين، ويتضارب مع مصلحة روسيا السياسية والاقتصادية.
الموقف الروسي من ملف إعادة الإعمار واضح منذ البداية، وتحديداً منذ بداية السنة الحالية، ففي شباط وضعت روسيا رقماً تقريبياً لتكلفة إعادة الإعمار في سوريا، يتراوح بين 200 و 500 مليار دولار، مع الدلالة والإشارة إلى أنَّ “السلطات السورية” تمنح الأولوية للشركات الروسية في هذا المجال، فيما تحدث بشار الأسد، منتصف نيسان الماضي، عن أن “إعادة البنية التحتية يكلف 400 مليار دولار على الأقل، ويلزم لهذا وقت من عشرة إلى 15 عامًا”.
وفي تقريرٍ صادرٍ عن اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة في بيروت، في الثامن من شهر آب الماضي، جاء فيه إن تكلفة إعادة إعمار البنية التحتية في سوريا تصل إلى 400 مليار دولار، وهذا الرقم يشمل حجم الدمار في سوريا فقط، ولا يشمل الخسائر البشرية، والمقصود بها الأشخاص الذين قتلوا خلال المعارك، والأشخاص الذين نزحوا وهجّروا من منازلهم.
الموقف الروسي والأوروبي من ملف إعادة الإعمار
روسيا قالت مؤخراً أنها لا تنوي تحمُّل أي جزء ولو كان صغيراً، من الفاتورة، والولايات المتحدة الأمريكية غير متحمسة بشكلٍ خاص للمساعدة بعد إلغائها 230 مليون دولار لتمويل إعادة إعمار الرقة، ومناطق أخرى تم تحريرها من تنظيم داعش، وحمَّلت السعودية والإمارات دفع الفاتورة. ومع التراجع الأمريكي توجه بوتين للتحدث مع الأوربيين حول محنة اللاجئين السوريين، وبالتأكيد لم يكن حديثه بدافع العاطفة، فقنابله وطائراته ومختلف أسلحته المتطورة، هي من فتكت بحياة هذا الشعب، وهي من سببت النسبة الأكبر من هذا النزوح، وكأنه يريد أن يحمل الاتحاد الأوربي مهمة إنقاذ الأسد في المرحلة الحالية، بعد إنقاذه له منذ 2015 ، وللأسف يوجد لدى بوتين بعض التعاطف في أوربا، ناهيك عن امتلاكه بعض الأوراق القوية الاستخباراتية، التي تدخل في صلب السياسة الداخلية لدول الاتحاد الأوربي، والتي يمكن أن يستخدمها ابتزازاً لبعض الحكومات للدخول في إعادة الإعمار السوري بالشروط الروسية، وهذا ما يجعل الاتحاد الأوربي يدفع للأسد مباشرةً في حال وافق الأوربيون، وهذا سيسبقه رفع العقوبات المفروضة على نظام الأسد من قبل الاتحاد الأوربي، لكنه رغم ذلك يبقى إعلان “الدول السبع” الكبرى، في نيسان الماضي، أنها لن تشارك بإعادة إعمار سوريا دون انتقال سياسي “ذي مصداقية” لنظام الحكم، وتضم تلك الدول كلًا من الولايات المتحدة وكندا واليابان وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، يشكلُ هاجساً مخيفاً لروسيا التي تتخوف من عدم مشاركة الدول الغربية بإعادة إعمار المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة ميليشيا الأسد، ورغم حصول موسكو على ميزاتٍ اقتصاديةٍ طويلة الأمد، عبر توقيع اتفاقياتٍ مع النظام، كان أهمها في قطاع النفط والغاز وتوريد القمح، إضافة إلى عشرات الاتفاقيات مع تجار وشركات روسية، لكن ذلك لا يؤهلها لحمل ملف إعادة الإعمار بمفردها.
موقف الأسد من ملف إعادة الإعمار
في حين أنَّ نظام الأسد ليس لديه وضوح في مسألة إعادة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مدنهم وبيوتهم، للبدء بتنفيذ ملف إعادة الإعمار كما هي الطروحات الروسية، وإنما يسعى لاستغلال الضبابية في السياسة الدولية إزاء إيجاد حل سياسي في سوريا، وضبابيةٌ أكبر فيما يخص إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار في سوريا، لإعادة تشكيل التركيبة السكانية السورية، طائفياً وسياسياً بمساعدة الإيرانيين، بعد انكشاف الموقف الدولي بما فيه روسيا، على ضرورة خروج إيران من سوريا عسكرياً، وهذا ما كانت إيران متنبهة له منذ بداية حرب نظام الأسد على شعبه، وقامت باستملاك الكثير من العقارات في حمص وحماه ودمشق وريفها وفي حلب، بالقوة العسكرية وبواسطة تزوير عقود بيع وتثبيتها في الشهر العقاري، وخصوصاً في المناطق التي تم تهجير سكَّانها بالقوة العسكرية إلى الشمال السوري المحرر، وهذا ما يطمع به الأسد بعد خروج إيران عسكرياً وبقائها كأفراد مالكين ومجموعات طائفية، لتُشكِّل مع عناصر النظام الطوق الآمن الذي سيحافظ على السلطة في يده، ووضع يده على باقي الممتلكات بطريقة قانونية، عبر تنفيذ النصائح الروسية التي صرحت بها الحكومة الروسية، والتي تقول بأن الأسد سيصدر قوانين تُسهّل عودة اللاجئين إلى مدنهم وبيوتهم، ويمكن للأسد أن يقوم بإقرار قوانين ومراسيم حكومية خاصة باستعادة اللاجئين والنازحين ممتلكاتهم، ضمن مهلة محددة، مع تفعيل التعطيل البيروقراطي في المكاتب المختصة بتسيير تلك المعاملات، لتأخير إتمامها قانونياً حتى تستنفذ المهلة المحددة، مما يجعل الحق لحكومة الأسد في وضع يدها على أملاك المتأخرين في إتمام معاملاتهم.
لا يمكن إعادة الإعمار تحت سلطة الأسد
كل هذا سيجعل من ملف إعادة الإعمار جريمة جديدة بحق السوريين، لا تقل عن أي جريمةٍ ضد الإنسانية ارتكبها نظام الأسد وحليفيه الروسي والإيراني، فما لم يتم الوصول لحل سياسي بدون الأسد لا يمكن البدء بإعادة اللاجئين المتضررين من وحشيته إجرامه، هذا أولاً، أمَّا ثانياً فإن الفساد الإداري والمالي الذي يعشش في مفاصل نظام الأسد ومؤسساته لا يمكن أن يُبنى عليه أي مخططات لإعادة الإعمار، وهذا ما يعرفه كل سياسيي العالم عبر تقاريرهم واستخباراتهم، وخصيصاً في الأعوام السبعة الأخيرة، فكل دولار من أموال إعادة الإعمار يصل إلى نظام الأسد، هو عرضةٌ للفساد، وسوف يُثري المقرّبين منه، ويعزز شرعيته ويسهم في ترسيخ رؤيته المظلمة بسوريا.
ولذلك يمكن لنا وضع تصور أولي لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار بشكل فعَّال وإيجابي لإعادة الدورة الحياتية والاقتصادية للشعب السوري ضمن جدولٍ زمني قصير يحقق فيه السوريين ما أمكن من أرضية صلبة لينمو عليها مستقبل الأجيال القادمة في دولة الحرية والعدالة والمساواة والكرامة، وهذا ما يحتم وجود الحل السياسي الذي يضمن رحيل الأسد، وهو ما سيفرز تلقائياً الجهات التي ستمول ملفات إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار.
ما هو الحل لأزمة إعادة الإعمار؟
بعد تخطي الأسد، يجب إيجاد قنوات لسير التمويل المقرر لإعادة الإعمار، من المصادر وحتى الداخل السوري خارج نطاق مؤسسات النظام أو ما سيتبقى من متنفذيها، لتمويل عملية إعادة الإعمار بشكلٍ شفَّاف ونزيه ومسؤول، وهذا ما يمكن البدء فيه في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
ولذلك يجب أن لا تكون عملية إعادة الإعمار عشوائية، وأن تُبنى وفق رؤيةٍ اقتصاديةٍ وطنية شاملة، بعد إعادة الأمان للمدن وإلغاء كل المظاهر المسلحة، ومكافحة الفساد بكافة أشكاله، لضمان إنتاج عملية بناء نزيهة، بدءاً بمحاسبة تجار وأثرياء الحرب، مروراً بإعمار البنية التحتية الأساسية وكافة الخدمات الرئيسية (شبكات المياه، والصرف الصحي، والكهرباء) وصولاً لبناء المصانع والمدارس والمرافق العامة.
وهذا ما يوجب في البداية وضع مخططات محلية والاستفادة جزئياً من ما تم وضعه قبل الحرب، وإلغاء أية مخططات وضعها نظام الأسد في سبيل تدعيم وجوده السياسي في السلطة، فالتشكيلة السُكَّانية لكل مدينة هي مَن ستحدد شكل ومضمون مخططات الإعمار، بما يتناسب مع هويتها التاريخية وبُعدها السياسي، ومتجذرة في بناء المدن بما يتناسب مع كرامة المواطن السوري.
ويتم تحديد التمويل بناءً على محورين أساسيين، من شركات إعمار دولية يتم التوافق عليها سياسياً ومحليَّاً ضمن شروط معينة تضمن العلاقة ضمن حدود تنفيذ المشاريع في المهل المحددة لها وعدم تدخلها في أي شأن آخر، وهنا يجب التفريق بين نظام إعادة الإعمار وإعادة بناء النظام الاقتصادي في المدينة، والمحور الثاني هو السكان المحليون أنفسهم، والعائدون من النزوح واللجوء ضمن إمكانياتهم الاقتصادية المتوفرة، وهذه الشراكة في التمويل ستضمن تطبيق المخططات التي تعبر عن العمق التاريخي لهوية كل مدينة، مع الأخذ بعين الاعتبار التعامل اللامركزي فيما يخص تحديد قيمة التمويل لكل مدينة بما يتناسب مع حجم الدمار الذي نال من بنيتها التحتية وعمرانها السكني، وذلك لاختلاف نسبة الدمار بين كل مدينة وأخرى، فهناك مدن أصابها دمار كلي وبحاجة لإعادة إعمار، وهناك مدن دمارها جزئي وتحتاج إلى ترميم، وهذا ما سيضبط سيولة التمويل في العصب الواصل بين لجان التمويل والشركات المنفذة للمشاريع، فأكثر المدن تضرراً هي حلب ثم حمص ثم الرقة، ثم دير الزور ثم ريف دمشق وإدلب.
وبما أنَّ إعادة الإعمار ستعتمد بالمطلق إعادة إحياء حواضر سوريا الحُرَّة، بالتعريف والحفاظ على هويتها المحلية، سيكون هناك الكثير من الإشكالات التي ستواجه هذا التوجه، وخصوصاً التغيير الديمغرافي الكبير الذي حدث في الكثير من المدن السورية، بسبب التهجير القسري باستخدام الحصار الخانق والقوة العسكرية الهمجية، لإذلال مناطق كاملة وتطويعها للعودة لحضن الوطن، ومَن كان يتمرد على العودة يقوم النظام وحلفائه بفرض التهجير القسري، وأغلب هذه المناطق التي تم إفراغها من سُكَّانها الأصليين قد سيطرت عليها الميلشيات الإيرانية والمليشيات المدعومة من إيران مع بعض ميليشيات الأسد، وقاموا بجريمة المحو لتاريخ كل مدينة واستملاك عقاراتها وإلباسها ثوب طائفي ليس له أي تأصُّل تاريخي في المدينة.
ومن الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند وضع المخططات لإعادة الإعمار، ما يتعلق بالسؤال إن كانت عملية الإعمار ستتم وفق تنظيم المدينة ما قبل الحرب، أو أنه سيتم وضع مخطط حديث كُليَّاً، من حيث الشوارع واتساعها، والمرافق العامة، والبنيان العمراني والسكاني ومستوياته، ولذلك يجب أن توضع المخططات من قبل وبإشراف السكان المحليين لكل مدينة، وهذه ستكون مهمة الإدارة المحلية لكل مدينة وهي إيجاد وإقرار مخططات تستوفي كل النقاط السابقة.
في الختام؛ إنَّ عملية إعادة الإعمار يجب أن تكون مبنية على حامل وطني بامتياز، فهي ستوفر العمل بحسب بعض التقارير لمليون يد عاملة، وهي ستكون عصب هذه العملية الأساسي، وبتشغيل وإشراك كل أبناء مدينة في إعادة إعمار مدينتهم، سيتحقق بناء المدن وفق هويتها المحلية الخاصة بها، وهذا ما سيحافظ على المكونات الأساسية من عمق الهوية المدنية، وإعادة بناء الأبنية الرمزية التي ترمز إلى إرث المدينة الثقافي، مع بناء المرافق العامة والساحات التي ستكون مزينة بأسماء وصور شهداء ثورتنا الذي عبَّدوا درب حريتنا بدمائهم، كجبرٍ للضرر المعنوي والنفسي لأهالي ضحايا المقتلة السورية التي كان مجرمها الأول والأخير الدكتاتور بشار الأسد .
عذراً التعليقات مغلقة