تشير تطورات الأسابيع الأخيرة بشأن سوريا إلى أن «النهاية السعيدة» التي يحلم بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما زالت بعيدة، وربما بعيدة جداً، ما لم يختصر الوقت اندلاع حروب موضعية جديدة، أو أخرى واسعة النطاق.
وإذا كانت «الحرب الباردة» بين إيران وإسرائيل، على أرض سوريا، تنذر بالتحول إلى حرب ساخنة في أي لحظة، فإن عوامل إجهاضها من قبل إيران المستكينة أمام الضربات الإسرائيلية المتكررة لمواقعها، وروسيا التي قامت بنشر مجموعة صواريخ الدفاع الجوي المتطورة s300 في سوريا، تتفوق على عوامل إشعالها.
أما من زاوية نظر الصراع الداخلي، فقد سيطرت ميليشيات النظام الكيماوي والميليشيات الحليفة متعددة الجنسيات على معظم أراضي النصف الجنوبي من سوريا، ولم تبق إلا جيوب قليلة لداعش في الجنوب، فيما انتهى وجود المعارضة المسلحة في سياق الخطة الروسية المسماة بمناطق «خفض التصعيد».
أما محافظة إدلب فقد نجت، مؤقتاً، من مصير مشابه، في إطار اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا (في غياب إيران) لكن الجدول الزمني المرفق بالاتفاق المذكور يقضي بإنهاء الوجود المسلح للمعارضة هناك، تحت إشراف تركيا، قبل نهاية العام. وإذا كان التركيز الآن على جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) وعلى السلاح الثقيل، فستكون الخطوة التالية مصير الفصائل الأخرى المرتبطة بتركيا، من أجل إنهاء وضع المحافظة ككل وإعادتها إلى النظام. هذا على الأقل ما يريده الروس وتابعهم في دمشق. أما تركيا فمن المستبعد أن تفرط بأوراق قوتها المتمثلة، بصورة رئيسية، بالفصائل العسكرية المقربة منها، إلا مقابل ثمن يرضي طموحات أنقرة ويطمئن هواجسها.
في هذا السياق تواترت التصريحات التركية، مؤخراً، بشأن «شرقي الفرات»، على لساني الرئيس أردوغان ووزير الخارجية شاويش أوغلو. وفي الوقت الذي حشدت فيه تركيا تعزيزات عسكرية على الطرف التركي من الحدود في مواجهة بلدة تل أبيض، شمال الرقة، تحدث أردوغان عن عزمه على تطهير شرقي الفرات من «الوجود الإرهابي» ويقصد به قوات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي ـ الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.
مع العلم أن «الوحدات» الكردية الموجودة ضمن إطار «قوات سوريا الديمقراطية» مدعومة من التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وفي حمايته. بالتأكيد لن تهاجم تركيا تلك المناطق التي فيها قوات رمزية من الولايات المتحدة وفرنسا، إضافة إلى قواعد ومطارات عسكرية أمريكية. لكنها تمارس ضغطاً سياسياً قد يزداد وزنه إذا أضيفت إليه الضغوط الروسية على واشنطن لإنهاء «وجودها غير الشرعي» حسب تعبير لافروف. ومجموع الضغطين الروسي والتركي قد لا يعنيان شيئاً بذاتهما، لكنه يتقاطع مع نية الرئيس الأمريكي المعلن عنها بسحب القوات الأمريكية من الأراضي السورية. تلك النية التي كبحتها المؤسسة العسكرية، مؤقتاً، ولا نعرف متى يمكنه أن يطرحها مجدداً، إذا تمكن من التغلب على المقاومات الداخلية التي يواجهها.
وفي الوقت الحالي يبدو الجناح المتشدد ضد روسيا وإيران، في الإدارة الأمريكية، عازماً على طرد الإيرانيين من سوريا، وعدم تسليم مصير سوريا السياسي لروسيا بدون شروط. اجتماع «المجموعة المصغرة» مع المبعوث الدولي ديمستورا، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان للضغط على الأخير من أجل التسريع بتشكيل اللجنة الدستورية حتى نهاية الشهر الحالي. لكن هذا هو ظاهر الأمور فقط. فردة الفعل الروسية تنبئ بأن ثمة شروطا يراد أن تفرض على موسكو، بشأن التسوية السورية، من شأنها إفراغ كل إنجازاتها الميدانية والسياسية من محتواها. وإلا ما معنى كلام لافروف عن أن «الخطر الأساسي على سوريا هو وجود كيان ذي استقلال ذاتي شرقي نهر الفرات»؟ أو تخريب عمل «اللجنة الدستورية» بصورة متعمدة من خلال مطالبة روسيا برئاسة لجنة صياغة الدستور، إضافة إلى ثلثي أعضائها، لمصلحة تابعها في دمشق؟ لهذين التصريح والمطالبة معنى واحد هو أن «المسار السياسي» المأمول من روسيا بات في المجهول، وأن العودة إليه تتطلب تغييرات ميدانية جديدة ترغم بعض الأطراف على الانصياع. ولكن ما دامت روسيا ليست بوارد مواجهة عسكرية مع واشنطن في سوريا (مثلها في ذلك مثل تركيا) فربما يكون التعويل على إعادة خلط الأوراق بوسائل أخرى من شأنها أن تطرح تحدي «العمل» على واشنطن غير الراغبة في أي عمل إضافي غير القضاء على داعش وطرد الإيرانيين من سوريا.
من تلك الوسائل، تدور تكهنات ـ مستندة إلى بعض وقائع دالة ـ بشأن «تفعيل» العشائر شرقي الفرات. وتلعب هذه الورقة، أو تتهيأ للعبها، كل من تركيا والنظام الكيماوي، لغايات مختلفة. ففي حين يسعى النظام إلى استمالة بعض العشائر لتشكل عامل ضغط على «قوات سوريا الديمقراطية» ومن خلالها على الولايات المتحدة، جرت استعدادات في تركيا لإقامة «مؤتمر لأبناء الحسكة» تم إلغاؤه في آخر لحظة «لأسباب أمنية» على ما بررت السلطات التركية. وقد يكون قرار الإلغاء على صلة بالتجاذبات الأمريكية ـ التركية بشأن قضايا خلافية عدة، أبرزها موضوع القس برونسون.
وتتركز جهود كل من النظام وتركيا، حالياً، على منبج الواقعة غربي نهر الفرات، لكنها بمثابة مختبر لشرقي النهر أيضاً. فالاتفاق الأمريكي ـ التركي الذي تم في شهر حزيران/يونيو الماضي، لم يدخل حيز التنفيذ إلى الآن، وهو ما يشي بأن الأمريكيين يماطلون الأتراك بقصة «التدريبات المشتركة» التي بدأت في تركيا أخيراً، بعد نحو أربعة شهور على الاتفاق، ولا نعلم متى يبدأ تسيير الدوريات المشتركة. وأين؟: حول منبج، لا داخل المدينة التي تسيطر عليها «وحدات الحماية» والمجلس العسكري المعين من قبلها.
خلاصة الوضع في الشمال هو أن الروس والنظام، من جهة، وتركيا من جهة أخرى، غير قادرين على شن عمل عسكري على المحمية الأمريكية في الشمال، في حين أن الأمريكيين لا يريدون التورط في أي صراع مماثل. وتكمن المهمة الروسية من جهة، والتركية من جهة أخرى، في استفزاز الأمريكيين العاجزين عن الرد بسبب غياب الإرادة السياسية.
هل يمكن أن يستمر الوضع الحالي بلا أي أفق؟ وبخاصة أن الروس مستعجلين لإنهاء الصراع، لكن العقبة الأمريكية تحول دون ذلك. والأمريكيون باتوا مستعجلين لإنجاز التسوية السياسية لأنهم لا يريدون التورط.
عذراً التعليقات مغلقة