* ممدوح فرّاج النّابي
لفترة طويلة ظلت الكتابات التي تنشرها السلاسل الأدبية، وقد اشتهر بها نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق، غير معترف بها رسميا، وإن كانت رائجة بين أوساط الشباب الذين يحملون قدرا من التعليم أفضل بكثير من الفئة التي كانت في فترة عصر النهضة، بل إن الكثير منهم اصطحب معه هذه الروايات وهو على أعتاب الجامعة.
روايات ما وراء الطبيعة
مع بداية الألفية الجديدة استمرت روايات السّلاسل السّابقة في الإصدار مع تزايد أعداد القرّاء من الجماهير التي تبحث عن سلاسل المغامرات أو «ما وراء الطبيعة» التي يجيد الكتابة لها أحمد خالد توفيق، وكان نموذجه رواية «يوتوبيا» التي أصدرتها دار ميريت 2008، مثالا على الاستجابة لجمهور القرّاء الذي بدأ يواكب الجديد خاصة بعد الانتشار المدوّي الذي حققته سلسلة هاري بوتر على مستوى التوزيع والطبعات.
لم تكن المواكبة حكرا على الجيل القديم، بل إن جيلا جديدا بدأ هو الآخر يقدّم نفسه تحت اسم «الرواية الرائجة» التي يرجع الدكتور جابر عصفور تناميها إلى وجود «ذائقة جديدة لقرّاء يؤثرون السّهولة، ويميلون إلى التشويق فى سياق ينطوي على التوابل المألوفة»، الغريب أنّه يلجأ إلى توصيفهم مثلما فعل عبدالمحسن طه بدر من قبل بأنهم ينتمون إلى طائفة الحرف المهمّشة والطبقات الاجتماعيّة المتوّسطة، هنا يقول جابر عصفور «ولا أستغرب لو كان أصحاب هذه الذّائقة من مدمني مواقع الفيسبوك والمدونات الإلكترونية التي تعطي كمّا لا نهائيا من المعلومات والمشهيات القرائية، ولكنها لا تعطي فكرا نقديّا، ولا نوع المثقف الذي يعرف الفرق بين قراءة التسليّة العابرة وقراءة المتعة الفنيّة عميقة الأثر».
لو قارنا بين ما كتبه الناقد عبدالمحسن طه بدر عام 1963 عن عوامل انتشار رواية التسليّة وطبيعة ذائقة قرّائها، وما كتبه الدكتور جابر عصفور عام 2014، بعد ما مرّ من السنوات لم نجد شيئا تغيّر سوى مواقع الفيسبوك والمدونات الإلكترونية، وهي من مستحدثات العصر الحديث، حتى أنه أعاد استخدام المصطلح القديم عن الرواية التي كان غرضها التسليّة. الغريب أن الناقد البريطاني رونان ماكدونالد، يعوّل على هذه الفئة ويعطيها أهمية كبرى في استرداد النقد من معاقل الأبراج العاجية.
لا يقصر عصفور أسباب تنامي الظّاهرة على ما سبق أن ذكره، وإنما يضيف عوامل أخرى وراء تنامي إقبال الشّباب على الروايات الرائجة مقارنة بعدم الإقبال على الرّوايات الرسميّة التي تمتثل إلى القيمة الفنيّة، ومن هذه العوامل ما أرجعه إلى «طبيعة المراحل الزمنيّة الانتقاليّة التي ترتبك فيها القيم، وتتسع مساحات المسكوت عنه من الخطاب المجتمعي المقموع، وتفرض هذا النوع المريح المسلّي من الروايات الرائجة التي تشبه الأفلام الرائجة، في أنها تريح الأعصاب من القلق والتوتر وتنسي القرّاء العنف والإرهاب الذين تحيطان بحياتهم صباح مساء. ولذلك فالروايات الرائجة لها فائدتها التي أقرّ بها» وهذا التحليل يدخل هذه الروايات إلى دائرة المتعة والتسلية اللتين وصف بهما عبدالمحسن طه بدر الروايات الشعبية في بداية عصر النهضة.
جمهور القراء
ترجع علاقة جابر عصفور بالرّواية الرّائجة إلى زمن أقدم من نشر مقالته التي عنونها بـ«هذا زمان الرواية الرائجة»، فالمقالة جاءت أشبه بسخرية لاذعة من ميول القرّاء وكانتقاد لذائقتهم القرائيّة التي تفضّل روايات البيست سيلر على حساب روايات الأدب الرسمي بمفهومي عبدالمحسن طه بدر ومحمد يوسف نجم.
المقالة مع أهمية البعض من جوانب الطرح التي طرحها عصفور عن أسباب الهوس بهذه الكتابات، كانت على مستوى السّلب، فاشلة في قراءة المشهد الروائيّ الجديد، وربط النتائج بالأسباب، وقد كان من أهمّ علامات المشهد الرّوائي سطوعا ولفتا للانتباه، هو صعود جمهور القرّاء معه، والتمرّد على النقد الرسميّ الصّادر من الأكاديميّة، وهي الظّاهرة التي لفتت ناقدا مهما مثل رونان ماكدونالد فجاء كتابه «موت الناقد» استجابة لهذا الحراك في العمليّة الإبداعيّة، وتبادل الأدوار بدخول عامل جديد على حساب الناقد الأكاديمي الذي أعلن ماكدونالد موته، متمثلا في القارئ الذي هو في ظلّ نظرية الفينومينولوجيا التي شاعت خلال منتصف القرن الماضي، هو المتلقي الأوّل. لكن في ظلّ السّياقات الجديدة وما أحدثته التكنولوجيا من تفاعلية صار لاعبا أساسيّا بل ومهما في تلقي الخطابات وأيضا في تغيير مسارها، محلّلا أسباب صعود سلطة القارئ/ الجمهور، في مقابل أفول النقد الأكاديمي.
لقد سبقت مقالة جابر عصفور التي تناولت هذه الظاهرة، مقالتان الأولى بعنوان «ظاهرة الرواية الرائجة»، ثم ّعاد مرّة ثانية إلى الموضوع بعد أن أثارت مقالته جدلا واسعا على إثر ما أثارته رواية رجاء الصائغ «بنات الرياض» من ذيوع وتوزيع كبيرين، فكتب مقالته الثانية في الموضوع ذاته بعنوان «الرواية الرائجة والقيمة».
في المقالة الأولى التي جاءت أشبه بفضفضة بينه وبين صديقه المترجم روجر آلان في الدار البيضاء، وذلك بمناسبة افتتاح معرض الكتاب، وتطرّق حديثهما إلى مشاغل الكتابة والترجمة ثم المشروعات المستقبليّة إلى أن وصل الحديث بهما إلى ما عرضته عليه سلسلة بنغوين العالميّة بعد أن اشترت حقّ ترجمة رواية “بنات الرياض” للكاتبة السّعودية الشّابة رجاء الصّائغ، وعرضت عليه أن يتولّى ترجمة الرواية إلى الإنكليزية، لكنه بعد أن قرأها اعتذر عن القيام بالترجمة بأسلوب ديبلوماسي.
كانت هذه الحكاية هي المدخل لمناقشة أسباب هذه الظاهرة فتطرّق في مقالته إلى بدايات الظاهرة التي عرفت البيست سيلر، حيث تعود إلى عام 1985 عندما نشرت إحدى مجلات الأدب والنقد الأميركية الجديدة، هي مجلة book man، قائمة لأفضل الكتب مبيعا وكانت هذه القائمة مستندة إلى تقارير مبيعات الكتب في المكتبات المعروفة على امتداد الولايات المتحدة وتبعت هذه المجلة غيرها، ونشأ تنافس في مدى المصداقية التي فازت بها النيويورك تايمز والـ«Publishers Weekly»، وإن كان الكاتب الراحل فؤاد قنديل في مقال له بعنوان “أين تقرير الـDNA للروايات الأكثر مبيعا في مصر” والمنشور في مجلة الثقافة الجديدة عدد 285 يونيو 2014، يرى فيه أن المصطلح تسلّل على استحياء منذ سبعين عاما تقريبا، بعد أن وضع أحد الناشرين في ركن بارز لافتة الأكثر مبيعا فوق رفوف بها كتب مرت عليها سنوات ولا تزال أغلب نسخها قابعة في المخازن، ومبيعاتها منخفضة بشكل مستفز ومثير للحيرة، وخلال أسابيع قليلة اختفت الكتب بعد أن أقبل عليها القراء. هكذا يورد الراحل فؤاد قنديل تاريخا أقدم من التاريخ الذي ذكره جابر عصفور.
وفي ذات السياق يرى المستعرب الفرنسي ريتشار جاكمون، في حوار له مع سيد محمود، أن الظاهرة “ليست جديدة كما يتصور البعض فقد كانت معروفة منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، كما كانت الفجوة قائمة طوال الوقت بين الكتاب الطليعيين الذين يكتسبون قيمتهم من القدرة على إحداث ثورات أدبيّة على المستوى الجمالي وبين هؤلاء الذين يحقّقون نجاحا جماهيريّا وتجاريّا”.
ومع تحفظات جابر على رواية «شيفرة دافينتشي» لدان براون التي حقّقت رواجا هائلا، ومبيعات عالمية غير مسبوقة، فهو يرى أن الرواية من ناحية القيمة تحتاج إلى المساءلة، ثم يعرج على الروايات الرائجة عربيا خاصّة بعد النجاح الذي حقّقته رواية «بنات الرياض» لرجاء الصائغ، كما يفند أسباب انتشار هذه الظاهرة في عالمنا العربي حيث يرى أن في نشأة هذه الظاهرة، أهمية في ما تؤديه من أبعاد «وظيفية من منظور الإنتاج وأدوار مماثلة من منظور الاستهلاك، وهي أدوار تختلف، لا شك، من قطر إلى قطر، ومن لحظة حضارية إلى أخرى، وحسب اختلاف عوامل ملازمة كدرجة التعليم العام والخاص، ومكانة الفنون واتساع أو ضيق المقموع من أشكال الخطابات، وبالطبع درجات الحرية السياسية والاجتماعية».
الرواج والقيمة
في المقالة الثانية التي جاءت ردّا على الأصداء السّلبيّة التي تركتها المقالة الأولى، يوضّح عصفور الفرق بين الرّواج والقيمة، وإن كان يرى أن الكثير من الروايات تجمع بين الرواج والقيمة في آن واحد، ضاربا الأمثلة بنماذج عربيّة وغربيّة، فيلتقي الاثنان في البعض من الأعمال الاستثنائيّة كما حدث في «روايات نجيب محفوظ، أو البعض من روايات جمال الغيطاني وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان وغيرهم من كتاب الرواية المبدعين على امتداد الوطن العربي»، وبالمثل في العالم الغربي حيث أصبحت «روايات النيجيري بن أوكري “طريق الجوع” وأونداتشي “المريض الإنكليزي” والهندية أرونداتي روي “رب الأشياء الصغيرة” والكندية مارغريت أتوود “القاتل” روايات رائجة»، ثم ينتهي في الأخير إلى تصويب ما اعتقد أنّه فهم خطأ قائلا «ولذلك لا يمكن لمثقف عاقل ألا يعرف أنّ الروايات الرّائجة ليست كلّها عديمة القيمة بالضرورة، وأنّ هناك روايات رفيعة القيمة يمكن أن تكون رائجة، تتسع شرائح قرائها، وذلك لعوامل يمكن قياسها، أو قد لا تتسع لعوامل قابلة للقياس والاستنباط النقديّ». حالة الرفض للروايات الرائجة من قبل الكثيرين دفعت بظهور مصطلح الأدب الرفيع في مقابل أدب الظل الذي يوازي الروايات الرائجة.
رغم سهام النقد التي وجهت إلى هذه النوعية من الكتابة إلا أنه لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الكبير الذي لعبته في عودة جمهور الرواية إليها، وهو الدور الذي شغلته في بداية عصر النهضة، حيث نشأت الرواية استجابة لهذه الطبقة من الحرفيين والمهنيين. فقد لعبت روايات الناشئة دورا مهما في استعادة جمهور الرواية حيث خلقت روايات محمود سالم (1929 ـ 2013) وأحمد خالد توفيق، ونبيل فاروق التي استهوت قطاعا عريضا من الشباب ووسمتها المؤسسة العربية الحديثة التي تولت إصدارها، بأنها روايات الناشئة، خلقت جمهورا عريضا لهذه النوعية من الكتابات، التي انفتحت على أشكال جديدة بدأت مع الجيل الجديد، وهو ما يمثّل الأثر المهم الذي تركته كتابات أحمد خالد توفيق ونبيل فاروق، حيث خرج جيل جديد من عباءتهما، يكتب روايات المغامرات، والروايات ذات الحبكة البوليسية،.
اكتسب هذا الجيل أرضية وجمهورا جديدين، مثل حسن الجندي الذي اقترن اسمه بعوالم الجن والعفاريت والمخطوطات القديمة والقتلة النفسيين، وعمرو العادلي وشريف عبدالهادي، وعمرو الجندي ومن الكاتبات دينا عماد التي اشتهرت بقصصها العاطفية والاجتماعيّة على مدونتها التي حملت اسم “قصص دينا عماد”، وقد جذبت جيلا عريضا من الشّابات اللاتي تربين تحت وصايا شرائط عمرو خالد، فالكاتبة تقدّم الحبّ والعلاقة العاطفيّة في تناول تهذيبي وهو ما جعل لها هي الأخرى جمهورا عريضا من القراء الذين يتابعون أعمالها، ويتبادلون على حوائط صفحاتهم الشخصية على وسائل السوشيال ميديا عبارات على لسان أبطالها، في تأكيد على حالة التماهي والافتتان بما تكتبه، وهناك أيضا دعاء عبدالرحمن، وهي تهتم بالنوعية ذاتها من الكتابة، حيث تعتمد على توليفة القصص الرومانسية.
قد يكون نموذج أحلام مستغانمي ليس ببعيد وأكثر شهرة من دينا عماد؛ على الأقل إن أحلام عندما أصدرت روايتها ذات الصيت العالي «ذاكرة الجسد» وجدت كاتبا كبيرا مثل الشّاعر الرّاحل نزار قباني يكتب لها تصديرا يوضع على غلاف الرواية، وعلى الرغم ممّا أحاط هذه الرواية من ملابسات وصلت إلى حد الاتهام بأن الكثيرين اشتركوا في كتابتها، إلا أن الكاتبة واصلت الكتابة وأصدرت رواياتها الأعلى مبيعا مثل فوضى الحواس، وعابر سرير، والأسود يليق بك، وقد حقّقت الرواية الأخيرة قدرا من النجاح وصل بدار النشر التي أصدرتها، إلى أن وضعت جمهورها في ترقّب وحجز للرواية قبل صدورها عبر موقع الدار على الإنترنت، وكان الإقبال كبيرا، رغم أن السؤال سيظل معلقا في ظلّ حالة الذيوع والانتشار الكبيرين، هل ما تكتبه هو أدب بالمعنى العميق للأدب، على نوعية ما يكتبه بني جلدتها الطاهر وطار أو محمد ديب، أو الرّاحلة آسيا جبّار؟
عذراً التعليقات مغلقة