سيرة ذاتية ناقصة لحصان مُرهَق (6)
“أغنية من دفتر المراثي”
أحمد بغدادي
***
تمهّل .. هادنِ الليلَ الأعمى ولتمضِ بخطواتٍ متوجّسةٍ نحو أزقّتكَ المجهولة، لا .. تدعِ القلبَ يلتفتُ خلفكَ، فمجهولكَ يتسلّلُ كاللصِّ وراءكَ، كالظلِ يلازمُ أنفاسكَ.. فاسرع وباغتهُ بأصابعكَ، انقضّ عليهِ، اخنقهُ.. وبحذائكَ قبل أن تمضي، دقّ عنقَ المشهدِ ولا .. تتأسّف، فأنتَ قتيلٌ إن لم تقتل مجهولك.
تمهّل …
وارمِ عينيكَ نرداً أمام الكرةِ الأرضية، واختر مجهولاً آخرَ كضريرٍ يتحسّسُ دربَ الفجرِ بقلبه.
تمهّل .. في الليلِ ذئابٌ تركضُ نحوكَ.. ويلاحقكَ وَجَلُكَ، في دمكَ يعدو .. ويعوي، فيعوي قلبُكَ فوق صخرةِ عشقكَ أمام القمرِ المُصْغيّ للصمتِ؛ ذئابٌ بأنيابٍ ناصعةٍ كالبرقِ تلمعُ في لجِّ الصمتِ، وأنتَ فريستُها .. فتمهّل، لا تَفْزَع .. من لونِ دمكَ وعوائهِ أمام الكونِ ..
قتلوكَ أمام الكون.. وشربوا دمكَ أمام الكونِ بدوارقَ من تصنيعِ ” الأمم المتّحدة”!
تمهّل …
أَتُراكَ تصيّرتَ حقيقيّاً مثل دمكَ بين أشداقِ ملوكِ وأمراءِ “الكعبةِ” وتحت مباضعَ لجانِ التحقيقِ الدوليّة؟!
أَمْ، أنّكَ حقيقيٌ ودمُكَ زيفٌ أمام هذا الكونِ القاتل؟
تمهّل .. غداً، باسمكَ وبكلِّ ورودِ الثورةِ والشهداءِ وشرفاتِ العشّاقِ سوف نقاتل؛ ونسملُ أعينهم بهمساتِ الأطفالِ المرتجفينَ تحت خيامِ الذلّ العربية ..
تمهّل .. بالضحكاتِ وأغاني الثورةِ وحنينِ أمّي إليَّ وخوفِ أبي من ظلِّ رجلِ الأمنِ، وكلِّ الصرخاتِ ونحيبِ الأخواتِ وانتظارهنَ أمام قبورِ الشهداءِ، سَنَدِلُّ النهرَ إلى مجراهْ.. والأطفالَ إلى لونِ العشبِ، والغمّازاتِ الجميلةَ في المرايا إلى الأعيادِ والمدنِ المنتظرةِ في سورية ..
تمهّل، لا .. تترك قلبكَ بين صفحاتِ الكتبِ المسمومةِ والمرثياتِ المصطنعةِ والقصَصِ الكاذبةِ عن موتِ الحريّة.
تمهّل …
مُهجتكَ زجاجٌ في ذاكرةِ النهرِ، والحبُّ حجرٌ طائش ألقاهُ الشوقُ ليغرق..
تمهّل، في عشقِ الوطنِ مذاهبُ مُخطئةٌ، وأساطيرُ نعلّقها كالصورِ بإطاراتٍ مائلةٍ على جدرانِ منازلنا، لنخدعَ أطفالاً سُذّج بسذاجتِنا: أنّ _ الجنديَّ السوريَّ _ حرّرَ في يومٍ ما شبراً من أرضِ الجولان المحتلّةْ !
تلك هي حروفُ العلّةْ ..!
والجازمُ ليس أداةً للجزمِ .. تمهّل، هذا الإرثُ الزائفُ لم يستوفِ ثمنَ حذاءِ عاهرةٍ سكرى تسيرُ بغنجٍ برفقةِ أعضاءِ قيادتنا القُطْرية !
حذاءُ العاهرةِ أداةٌ.. للجزمِ، بأنّ الوطنَ مرهونٌ بالتطبيعِ مع “حاخاماتِ تلِّ أبيب” باسم مقاومةِ العدوانِ وممانعةِ الأمبريالية !
تمهّل .. الذئبُ أخوكَ !
والوطنُ هو البئرُ … فازرع روحكَ في قعرِ البئرِ الظمأى… ستثمر، روحكَ ستعلو كالنخلِ إلى الأفقِ، وتهزُّ أمُّ نبيٍّ جذعَ المشهدِ كي يُساقِطَ عليها رُطَبَ الغيبِ جَنِيّا ..
والسيّارةُ قد مرّوا أمام المجزرةِ، بقهقهةٍ، وأنتَ .. وحدكَ تنتظرُ “تنديداً أو استنكارا” عبرَ مدافعِ الدولِ العربية يهتكُ تاريخَ الجُبنِ والذلِّ ليومِ واحد في التاريخِ العربي السافلْ !
تمهّل .. لا تقبع بالوحلِ وترفس بقوائمكَ كـ “بغلٍ” مُنْهكٍ خرَّ من جرّ عرباتِ العلفِ لأعضاءِ الأحزابِ القومية !
يا أيتها السمومُ النقيعةُ في أثداءِ الأمّهاتِ الماجناتِ .. لماذا؟
لماذا لم تأخذي القاتلَ إلى قبرهِ قبل الفِطامْ؟!
لماذا لم تأخذي الطاغيةَ إلى العدالةِ قبلَ أن تتثاءبَ شوارعُ الوطنِ بالجثثِ والزِحامْ ؟!
أيتها الأشواكُ البريّة ..
أعالي التلال .. أيتها الأشواكُ في السهولِ القصيّة، يا ذكرى المراهقاتِ في القلوبِ والأعينِ، ويا نجوى الجروحِ في الزنازينِ الرطبةِ .. اعتصري، وتقطّري على الشفاهِ اليابسةِ التي لم تحظَ إلا بقبلاتِ الجدرانِ والقضبانِ الصدئةِ والذكرياتِ العابرةِ في الأحلامْ ..!
أيتها الأرواحُ التي تحومُ مثل نسورٍ جائعةٍ فوق جثثِ أبنائها في ساحات الإعدامْ !
تمهّلي ..
أرجوكِ، فأنا منذُ ولدتُ في هذا الوطنِ _ المقتلة _ لم أرني إلا حاملاً جثّتي على كتفي أمام أمّي، وأبحثُ عن فندقٍ للموتِ، فندقٍ كهذي الكرةِ الأرضيةِ.. يتّسعُ لكلِّ الخيامْ.
تمهّل …
نامَ الليلُ بين جفنيِّ الفجرِ … فلا تنم أيها القتيلُ، فبناتُ آوى إن شمّت دمكَ المضيء .. لا تنامْ.
تمهّل …
أيةُ أحدوثةٍ هذي عن إعادةِ الموتى إلى الحياةِ والحدائقْ؟!
تمهّل .. لا سلامَ مع الضباعِ والذئابِ إن لم تكن الأغاني _ أبداً _ سيدةَ السلامْ.
.
.
لا تتمهّل أمام اللئامْ.
عذراً التعليقات مغلقة