بعيداً عن كون إيران قوة إقليمية تستطيع ممارسة نفوذها في كل المنطقة، فإنها تجد نفسها اليوم أسير بازارين “بازار طهران، وبازار دمشق”، وربما يجد النظام الايراني لنفسه مخرجاً من الأزمة الاقتصادية الداخلية في حال ارتضى التصالح مع أميركا، بقبول شروطها من خلال تجديد الاتفاق النووي الايراني الملغى لكن من الصعب عليه الخروج من البازار السوري، بغياب القرار بالانسحاب من هذا البلد.
تجار بازار طهران قوة اقتصادية كبيرة، فانقلابهم على نظام الشاه -الذي عبر عنه الإضراب الأخير- وأسقط النظام الامبراطوري في العام 1979، ما زال ماثلاً للعيان، فالنظام الايراني لم يعد لديه القدرة على تثبيت العملة الايرانية التي وصلت قيمتها إلى الحضيض، وبات غير قادر على حماية المصالح الاقتصادية لمن لعبوا دوراً في دعمه وفضلوه على حكم الشاه، يضاف إلى ذلك انتشار الفقر والبطالة والبؤس، فشل لا يمكن تغطيته بالانتصارات على السوريين والعراقيين واليمنيين وتدمير بلدانهم عبر المرتزقة، الأمر الذي أدى الى استنزاف عشرات المليارات بينما البلاد تغرق بمستنقع الفقر والعَوز.
أما البازار السوري الذي باتت ايران أسيرة له، واعتقدت أنه سيكون سهلاً عليها التحكم به وايجاد مكان للعبة المساومات والابتزاز، هو اللآن في عهدة الدول العظمى التي ترفض استمرار ايران في سوريا، والطرف الوحيد الذي يحتاج طهران، هو النظام الأقلوي الذي يدرك مدى الارتباط العضوي بين إيران وشخص بشار الأسد، والآن وفي ظل تداخل المصالح الدولية “تناقضاً وتقاطعاً” أصبح البازار السوري ضيقاً في وجه طهران التي تحاول إيجاد مكان لها في ظل صفقة كبيرة في سوريا يحدد إطارها “الأميركي والروسي والاسرائيلي”.
هذا الواقع يفرض على حكام طهران التفكير بتحصين إيران من الداخل لعدم الوقوع في المحظور، فكلفة دخول البازار السوري بعد اليوم صارت أكبر بكثير من كلفة استرضاء تجار بازار طهران والخروج من المأزق الاقتصادي الداخلي الذي تسببت به سياسة إيران العدوانية والرعناء مع دول الجوار.
النظام السوري أعطى إيران شرعية الوجود، لكن إلى أيّ حد تستطيع طهران الاعتماد على بشار الأسد، فضلاً عن ميليشياتها المذهبية كورقة للبقاء، فكل ذلك لن يكون له معنى في حال وجد الأسد نفسه في صفقة البيع والشراء العالمية، في حال أراد البقاء في حكم دمشق ، وهو على يقين أن الحكم الذي ورثه عن أبيه مرتبط باسرائيل قبل أي شيء آخر، “إسرائيل” الحاضرة في موسكو يوم 11 يوليو الجاري لتضع بوتين بصورة مطالبها في القمة التي ستجمعه مع ترامب في هلنسكي 16 يوليو من هذا الشهر.
وبكل تأكيد لن يغيب نتنياهو عن اجتماع حلف شمال الأطلسي “الناتو” الذي سيجمع ترامب مع حلفائه الأوروبيين في الفترة بين 11 و 13 من هذا الشهر، فلا شك بأن التشاور بشأن الصفقة السورية بين أمريكا وروسيا سيكون حاضراً.
كلّ من ترامب وبوتين يجهّز ملفاته ومطالبه لانجاز صفقة المصالح العليا لبلديهما في المنطقة استعداداً لمرحلة ترتيب الوضع النهائي الذي يسبق استثمار الإنجازات على الأرض، روسيا ستحل محل ايران في سوريا بعد ضمان عودة النظام إلى الجنوب السوري بشكل كامل، لكن ذلك يتضمن سحب الميليشيات الخاضعة لإيران من الحدود الجنوبية لسوريا، فالاتفاق حول هذه المنطقة موجود بالفعل وقد تم تثبيته في القرارات التي اتخذها بوتين وترامب في الاجتماعات التي عقدت في هامبورغ العام الماضي -شهر يونيو- وهذا الاتفاق سانده الأردن، وبالنتيجة لن تكون هناك قوات غير سورية في هذه المنطقة، فقد كانت موسكو العامل الرئيسي في مساعدة النظام على استعادة الجنوب، وإيصال علاقاته مع إيران إلى الحد الأدنى.
موسكو تتجه الى مقايضة الوجود الأمريكي “شرقي سوريا” بالوجود الايراني، لطالما تحدث ترامب عن فكرة الانسحاب من سوريا، لكن واشنطن تريد بقاء قاعدة التنف عند زاوية الحدود “السورية، الأردنية، العراقية” من أجل مراقبة إخراج إيران من سوريا، إيران لن تستسلم بسهولة وستحاول عرقلة أي صفقة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة لإخراجها من سوريا كذلك بقايا النظام السوري الذي لم يعد قادراً على العيش والاستمرار دون حروب بعد اليوم، وذلك لإشغال جميع الأطراف الدولية والإقليمية المتدخلة في الصراع السوري خاصة حاضنته الشعبية من المؤيدين والميليشيات المرتزقة والقوات الروسية التي تحارب معه، لأن نهاية الحرب تعني البدء بتقاسم الحصص وتوزيع الأجور والأرباح، فهناك قوتان “روسيا، إيران ” تقولان على الملأ بأنه لولاهما لسقط الأسد، فكيف يستطيع النظام أن يرضي من يقول له بأنه وهبه الحياة من جديد؟ ناهيك أن الخلافات دائماً تبدأ عند توزيع المسروقات.
جشع وطمع كل الأطراف التي تريد أن تفرض نفسها على طاولة “صفقة بازار سوريا” يجعل الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات والمفاجآت غير المتوقعة.
عذراً التعليقات مغلقة