سيرة ذاتية ناقصة لحصان مُرهق [1]
سائق الأرواح
أحمد بغدادي
***
السكاكينُ تعدو بين الضلوعِ مثلّمةً تجتثُّ الأفئدةَ المتعرّقةَ من لهبِ انتظارِ الدروبِ المضيئةِ. تجرفُ السكاكينُ الأنيقةُ بقبضاتها المُنمّقةِ بابتساماتِ الأوصياءِ علينا أعينَ الأطفالِ، وخدودَهم أمام الأنبياءِ المتثائبين نحو السماءِ.. نحو المقابرِ الجماعيةِ والمدن المحطّمة!
تداعبُ الأوردةَ الرقيقةَ في الأعناقِ كأظافر المراهقاتِ المطليةِ بألوان الفصولِ والزهورِ وأسماء الينابيع القصيّة؛ السكاكينُ الأنيقة ! والحروبُ تشدّنا بخيوطٍ من حريرٍ تجاه المنافي، تجاه بلاد الزهور والديمقراطياتِ المعلّبةِ بصناديقَ مزركشةٍ بأهدابِ أطفالنا، وألبستهم المبلّلةِ بالغرقِ على شواطئ “لسبوس”.
ــ قل لي أيها الضبابُ أين مصبّكَ؟
أين تُرانا نمضي حاملينَ “صُرَرَ ” المنافي والأوطانِ على أكتافنا بعِصِيِّ الشرودِ تارةً، والانتباهِ مراتٍ أخرى!؟
نحنُ الطغاةُ..
في كلِّ بيتٍ طاغية !
في كلّ حيٍّ وشارعٍ وزقاقٍ.. وعلى عتباتِ كلّ المنازلِ ثمة رائحةٌ للخديعةِ، والمواربةِ، تفوحُ مثل حيوانٍ نافقٍ كتاريخنا ! .. نحن أبناءُ التاريخِ المزوّر! .. نحن أحفاد الأكاذيبِ والقصصِ المخمليّةِ؛ قصصِ البطولات والفتوحاتِ والمعجزاتِ والأساطيرِ والزهوِ !
الحروبُ لا تجيءُ هكذا.. دون إنذارٍ، أو دون أن تقرعَ طبولها قبل أن تلجَ أجسامنا، ومنازلنا وعقولنا ومدننا وأوطاننا.. !
الحروبُ ابنةُ الطغاةُ ونحنُ أحفادهم !
القلوبُ صارت محطاتٍ للحبِّ ومرافئَ للحنينِ والخناجرِ والفخاخ !
القلوبُ أضحت ساعاتٍ رقميّةً نضبطها أمام العابرين حولها، بين نبضاتها ووجيبها!
فأية صدورٍ سوف تتّسعُ لحنق الحياةِ ولؤمِ الأوصياء على أرواحنا؟!
يا أيها المُدلّهُ بالأوطانِ
لا تسلِ السماءَ عن الأمطارِ مادام البولُ قد وصلَ إلى الحناجر.
لا تسل الأنبياءَ عن المعجزاتِ فقد صار رغيفُ الخبزِ هو المعجزة.
لا تشهر السلاح في وجه الأعداءِ وخلفكَ أشقاؤكَ الأعداءُ وحولكَ المصائدُ الجائعة.
لا تبحث عن الحريّة وفي داخلكَ ألفُ سجانٍ وطاغية.
لا تبحث عن الكرامة في أكياس القمامة.
لا تشترِ قميصاً أبيضَ للتفاؤل فالقناصُ ينتظركَ في البناءِ المجاورِ للحديقة.
لا تقل إن الثورةَ سوف تنتصرُ قريباً، ثمة خنازيرُ مهجّنة توزّع الثورات بمقاديرَ دقيقة على الشعوب.
لا تتفوّه بأي شيءٍ أمام الحقيقة.. فأنتَ _ مسحوبُ _ اللسانِ منذ تكوينكَ في الرحم.
تلك هي الأساطيرُ .. تلك هي السكاكينُ التي تجزُّ رقاب الورودِ والأطفال؛ تلك هي الرصاصاتُ تُحْدِثُ ثقوباً جميلةً في أجسام أبنائنا وأمهاتنا وفي قلوب العشاقِ المتأخرين عن المواعيد السرّية !
الوطنُ لدينا مقتلة ..
الوطنُ سجونٌ بأرقام وأسماء مدهشة..
الوطنُ مجزرةٌ وحافلات تأخذنا إلى المقابر البعيدة.
الوطنُ حظيرةٌ تجمعنا نمارسُ فيها رياضة الركلِ والنهيق والرضوخ.
الوطنُ جَوَاسِيقُ شاهقةٌ للطاغيةِ المدلّل.
الوطنُ ليس حدائقَ وبيادرَ وحقولاً للحبِّ والضحكاتِ.
الوطنُ ليس نبعاً ولا بحيراتٍ خلابةً وسماءً للعصافير والنجوم.
الوطنُ ماخورٌ للأحزابِ والتياراتِ السياسية، والمنتديات الثقافية والصحفِ والأثداءِ والمعارضات واليساريين والقوميين والقديسين والشيوخ والحشيش والروث والجنس والمنابر.
هذي هي الأساطيرُ الكالحة ..
هذي هي السكاكينُ القاسية..
تلك هي الأوطانُ الجميلة والمنافي الرائعة !
أين اصطدامُ المجرّاتِ السريعة ؟
أين الخناجرُ المباغتةُ واللذيذةُ ؟!
يا أيها الموتُ تقدّم ببسالةِ الذئابِ ..
يا سائقَ الأرواحِ تعالَ وخذ هذي الأرواحَ إلى مبتغاها؛ خذها إلى مبتغاك.
عذراً التعليقات مغلقة