في بداية موجة النزوح التي شهدتها مناطق الريف الدمشقي وحمص منتصف العام 2012 امتلأت حدائق دمشق العامة بالكثير من هذه العوائل التي لم تجد مسكناً يأويها إلا أغصان الشجر المتوزعة في حدائق مجانية، لا تكلفهم أكثر من بساط صغير يستثمرونه في التمدد على العشب جانباً ويبقون أطفالهم تحت أعينهم بينما يمارسون اقتطاع الوقت في اللعب هنا وهناك.
لنقل أن هذا ما ظنّته أغلب العائلات النازحة، ولكن في الحقيقة الكثير منهم كان يبحث عن جدار واحد يستطيع الاستتار خلفه بأهله، فلا شيء أقسى من أن تعيش مشرّعاً حياتك الخاصة للجميع، لسيارات العابرين، لشبابيك المتطفلين، للعنات المتململين من منظر يشوّه على حد قولهم أماكنهم المفضلة.
بالنسبة لي كان الأمر يعنيني أكثر من اللازم، وعندما تكون إنساناً صرفاً في تلك الأرض عليك دوماً أن تتفهم أنك لن تستطيع مد يد العون لكل الذين يحتاجونها، مع كامل الثقة بأنك تحتاج ألف شخص آخر يفكر مثلك في هذه المدينة الصغيرة لتنقذ المتعبين من حرب أرغموا على الخوض فيها منذ بدء ثورتهم على الظلم، وحتى حربهم العظيمة ضد التشرد الذي فرضه عليهم ظالم يدرس ما تؤول إليه الحال جيداً.
في ذلك العام وتحديداً داخل “حديقة الباسل” الواقعة في “حي التجارة” المكان الذي يعد مدخل المدينة الفاضلة من جهة الريف، والذي يعني أنه بداية الخط القادم من مجموعة البشريات التي ستتجه نحو مدينة لا تشاركها الطائرات ولا القذائف صباحاتها الباردة، مدينة تنعم بأمان الصمت كما حاول القائد دوماً إخضاعها. في الأيام التي كنا نحاول درء برد شتاءات الثورة العاصفة، وفي هرب صغير كنت قد اعتدته من معهدي مع صديقاتي، وبينما نراقب حال عائلات كثيرة تفترش العراء محدقة في سماء قد تخدعهم بعد قليل وتمطرهم بخيرها الذي سيتحول شراً إن أغرقتهم تماماً بقليل ما امتلكوا دون أن يجدوا ما يدرأ عنهم ذلك ولا حتى بمظلة صغيرة. كنت ألاعب بعض الأطفال الذين فهمت أنهم هاربون من حمى الحرب، وأنهم يخافون أن تصير الحرب وحشاً ضخماً يتبعهم إلى هنا، وأن النوم في الحديقة مخيف للغاية ربما أكثر من صوت القذائف كما قال لي أحدهم.
تقدمت بعد لحظات مجموعة من الأشخاص في زي مدني تماماً وبدأوا يقتربون من كل تجمع صغير من العائلات الموزعة هنا وهناك، وخلفهم يقف شباب من الجيش مسلحين بأسلحتهم التي ترفع في وجه الأهالي بشكل خجول، أو لنقل كي لا يبدو للناظر من بعيد أنها تحمل تهديداً عميقاً وإصراراً على الطاعة. وجدت الأشخاص تنسحب بالتدريج بأشيائهم الخفيفة متجهين تحت إدارة هذه المجموعات نحو باصات تنتظرهم في الخارج.
لم أتمالك نفسي عندما اقترب منا أحد الجنود مستفسراً إن كنا نحب مرافقتهم، كنا تقريباً ثماني فتيات نجلس في الحديقة نتابع هذا الاختفاء المفاجئ لوجوه بائسة ارتسمت على ملامحها مظاهر خوف لا أظن أني سأنساها ما حييت، كأن عيونهم تستنجد إنقاذاً، وربما تعاتبنا وتخبرنا “لو أنكم تكرمتم لنا بجدار واحد ولم تدعونا عرضة لهذا الخطف العلني”.
رددت على ذلك الشاب بلؤم يناسب تفاهة سؤاله، وسألته إلى أين سيرحلون؟ ثبت سلاحه على الأرض كأنه يعلن هدنة خفية معي ويحاول إقناعي “هذا منظر غير حضاري في المدينة، ويشوه الصورة العامة لها، لذلك قررت الدولة أن تضع هؤلاء الأشخاص في مراكز ايواء خاصة لهم وهناك سيعاملون جيداً أكثر من هنا”.
منظر غير حضاري!! .. كانت هذه الكلمة ميزاناً كافياً لتفهم أن الوحش الذي تتعامل معه باسم الحكومة كان بربرياً جداً ويهمه الحفاظ على صورة العاصمة كما يشاء، مدينة لم يمسسها الموت إلا صامتاً كما كتب على شهدائها ومعتقليها.
ذلك الشاب أمن طرفه عندما عرف أني من الشام وأن صديقتي الدرعاوية كانت لتشكل خطراً عليه لولا لطف وجودي، “أنتو مشرانيين” أخبرها قبل أن أرد عليه “كلنا مشرانيين” حين رفعتْ سلاحه في وجهه بعد أن سلمنا إياه لبعض الوقت لتجربه من باب مد يد السلام بيننا محاولاً التخفيف من توتر اللحظة عندما بادلناه نظرة اللا تصديق تلك. “المراكز مجهزة بشكل كامل صدقيني سيعيشون بشكل أفضل” وعندما سألته أين مكانها؟ لم يجبني قال أنها بعيدة وخاصة، عرفت أنها مساكن إيواء في الظاهر ولكن السجن هو مسمى أكثر صدقاً، بدأت الأصوات تعلو من أم لديها ثلاثة أطفال تصرخ بهم “بدكم تقتلونا متل ما قتلتوا زوجي، اتركونا بحالنا ما بدنا نروح معكم” كان صوتها يهز كل شيء حولنا، سكين تزرع في قلوبنا الصدئة، دمع يخط وجناتنا حرقة ويأساً، تقدمت لأقترب منها عندما أعادني للوراء هامساً “رح ياخدوها بالقوة ما تقربي” لم أفهم ما معنى القوة إلا بعد ثوان قصيرة عندما اختفت المرأة وأطفالها في لمح البصر وبقيت حصيرة صغيرة تشهد أنهم ربما كانوا هنا، أو ربما أنني كنت أحلم.
كانت لحظات سريعة عندما اختفى ذلك الشاب أيضاً، قائلاً قبل ذهابه “مو كل مين حمل هاد السلاح اللي وجهتوه عليّ اليوم قاتل، تذكروا هالشي منيح”.
يومها لم أكن أعرف أن أرتب أحقادي مثلما أنا الآن، عندما أبحث عن فرص قليلة لأصب جام غضبي على هذا العالم وأنا أتذكر أن جدران منازلنا الصغيرة لم تكن كافية لكل أولئك المتعبين حتى سمحنا بتسليمهم مرة أخرى للقاتل نفسه. المتعبون أنفسهم الذين حاولوا الاحتماء بجدران بيوتهم المهدومة والمقصوفة وتحت نيران الموت الذي لا يهدأ وقتاً طويلاً فقط كي لا يجربوا معاناة التشرد في دمشق، وكي لا يمسهم عار الخطيئة في مدينة تحارب أهلها اليوم بقوت يومهم وحلمهم، أولئك الذين لم يكن الموت كافياً لهم حتى أراد رؤساؤه التوقيع على معاهدات تقتضي هدّ بيوتهم وصمودهم فوق رأسهم وإعادتهم غصباً إلى يد المجرم من جديد.
الآن ضمن مراكز إيواء كما يقول النظام منتشياً برسالته السامية التي تقتضي مساعدة الناجين من قذائفه اللعينة وزجهم جميعاً في زاوية صغيرة ضمن عالمه الأسود وتحت سلطته الكاملة وجبروته وذله. المراكز ذاتها التي نقلَ عليها كثيراً من العائلات وتم إخفاؤها ربما دون أن يصل لها أحد منذ ذلك الحين، جعل الأمر العلني أكثر مناسبة له حين وزع عائلات الريف الدمشقي التي رفضت الابتعاد نحو إدلب أو تم الإمساك بها قبل أن تنجو بموت ما وترحيلها إلى سجونه الجديدة باسم مراكز الإيواء.. بعد أن صار الأمر شبه علني واضطر النظام لتحسين صورته وروايته بالتصريح عن تلك المراكز، حيث تقع في أماكن بعيدة عن مركز دمشق، شبه نائية وشبه فارغة، يكدسون فيها الناس بغرف صغيرة، وأعداد كثيرة، بظروف حياتية أقسى من أن تذكر، وكلما طالب بعضهم بحياة أكثر رأفة، صرخ بهم المسؤولون هناك “ع أساس بحصاركم كنتو عايشين ملوك، كتر خيرنا عيشناكم هيك”.
يصاحب هذه الكلمات ذل عهدناه من نظام الأسد، الكثير من صور الأخ الأكبر معلقة هنا وهناك بابتسامته الشامتة تذكرهم بقاتلهم المنقذ، الذي منحهم حياة جديدة ليهتفوا له كلما قدم لهم رغيف خبز يابس، من لا يمنحهم حاجتهم من الماء إلا بكسرة النفس، ولا يسمح لهم بالتحدث إلا بما يمجده ويشكره. هناك حيث يصنع الأسد قوانينه الخاصة في ذبح آخر ما تبقى من رمق حياة وكرامة عند الصامدين أمام أدوات حربه الثقيلة لسنوات كثيرة، تجاوزوا فيها كل سوء الحياة بحجة أن حائط منزلهم لا يزال قادراً على سترهم، حتى ذلك الوقت الذي حطم فيه الأسد ذلك الجدار على رؤوسهم ومنحهم صك النجاة على شكل علب كبريت صغيرة، ضمن معتقل كبير له قوانينه وشروطه التي تمنعهم من الحياة خارجه وتحرم عليهم العودة لمنازلهم، وتجبرهم على قول شيء واحد “المجد للأسد” بينما تحكي دموعهم خلف صوتهم “يلعن روحك للأبد”.
هناك حيث لا صوت إلا للقهر، ولا قهر أكبر من الخسارة، ولا نجاة .. لازلت أتساءل ما الفرق بين أن يقتلنا خفية أو جهراً بعد كل هذه السنين؟ وبين أن يعتقلنا بضجيج القوة أو بهدوء الخنوع ما دام كل ما يراه العالم هو صورة الانتصار الزائف على دمنا، وأن كل ما يحدث هناك هو ضمن خطة واضحة لنعود إلى حضن الوطن ومغتصبه!
عذراً التعليقات مغلقة