*من هناك عندما يصبح الموت فرض عين ..وواجب:
تعال نخرق الهدنة معاً .. أنت توجه المدفعية نحوي .. وأنا أراقب السماء ..
أنت تقرر حل مشاكلك مع ميليشياتك المجرمة ببرميل جديد ..وأنا سأرفع الأنقاض ..
أنت تسير فوق جثث شهدائنا .. وأنا سأسقي قبور الآخرين الذين أحرسهم ..
أنت تدوس تراباً أحبه ودافعت عنه حتى آخري .. وأنا يوجعني الشارع الذي ضم صرخاتنا تحت بطش جندك …
أنت تخرق الهدنة .. وأنا أراقب الموت ليمارس الهدنة ضدك …
كلانا موت .. لكننا موت يرفع يده راضياً آمناً منتصراً بصموده وحلمه … وأنت موت ضعيف ضئيل يسند ظهره على كل هذا العالم السفاح ..
نحن وحدنا ولم نجبُن … وأنت وكل هذا العالم معك ضدنا ولم تزل صرخاتنا تخيفك وتكسرك …
ثم …. رصاصة وصمت ..
*من هنا نحو الناجين حتى اللحظة من الهدن المتداعية:
كيف أقتحم الطريق وأخرق المسافة بيننا؟ ..
كيف نحمل جثثكم على ظهورنا فلا تنحني بؤساً؟ ..
كيف نغفر لأرواحنا المتهالكة رغماً عنا كل شيء؟!..
نحن لم نضع الأرض بل أضاعتنا .. أضاعنا كل هذا الشتات ..أضاعنا انهزامنا لحقيقة واحدة .. “مو طالع بايدي شي”
أضاعنا أننا محترفون جداً في فن “البعبعة والتباكي” ومبدعون في إلقاء اللوم والانهزامات على أكتاف بعضنا بذات القدر الذي نحمل به جثث الأحبة فوقها!… لكننا لا نتجرؤ على الخروج للشارع لأجلنا … أضاعتنا التفاتاتنا الغاضبة … وتمسُكنا بالطريق البعيد جداً ..الطريق الذي لا يشبه الثورة ..
أضاعنا أنصاف الرجال ..وأنصاف العقل … وأضاعنا سلاح الموت في يد المتخاذلين .. أضاعتنا طرقنا النادبة التي لا تسكت أبداً .. وأضاعنا هذا الصوت الذي يريد أن يحمي أخاً يُذبح في بلاده .. وأختاً تغتصب .. فيضطر لتوقيع أوراق وتقديم تصريحات وهو يشاهد على بعد كل تلك المسافة أن الأمر يحدث الآن .. بينما يستمر من يوقع أوراقه بالختم على “مع رفض الطلب” ناظراً بكل برود لذات الزاوية ..
العالم لن يتحرك لأجلنا … صحيح .. من لم يحركه كل ذاك الموت الذي مر لن يحركه شيء الآن .. لكن على الأقل تحرك أنت كي تشعر أنك كنت ابن تلك الأرض وابن تلك الحقيقة التي أخرجتك للنور .. ابن الثورة ولو ذات يوم مضى .. كي تستطيع الانتصار لاسمك وبلادك .. كي يسامحك القابعون تحت ذلك الموت يهتفون باسمها وبنصرها وأنت تلعن الوجع خائفاً من أن يلفح البرد خدك!
الشيء الوحيد الممكن في هذا العالم هو أن تتحدث .. أن ترفع صوتك .. أن تقول لكل هذا الكوكب “اللعنة عليك هناك موت يُصب في روحنا” …
“لا ينام الموجوعون” … وكما هم فالثائرون لا ينامون .. ولا ينام الذين ينتظرون الموت واقفاً على الباب … لكن دفئنا يجعل نومنا هانئاً .. ونحن نربت على حلمنا ونخبره أن “هيك طالع بالايد الله يرحمك!” فيغفو مثلنا .. وتخرس الحشرجة التي تؤذينا في حناجرنا لأن الصوت كان في الأصل أخرس ..
هناك لا ينظرون للسماء جمالاً لكنّ أحدهم مكلف بعدّ الطائرات والبراميل … والآخر بحساب المسافة بينهم وبينه .. والثالث في إحصاء الشهداء … ورابع يركض لإسعافهم .. وخامس يكتب عن حقيقة ما يحصل .. وكثيرون كثيرون لا يهدأون رغم تعبهم كي لا يُنسى الطريق .. كي لا تصبح تلك البلاد كما أرادها القاتل دوماً نسياً منسية بمن فيها ..
يرسلون الرجاءات للسماء مع شهدائهم … ويقف أحدهم أمام قبر أخيه باكياً “ما كان بايدي انزح يا خاي عنك .. بس الملعون ما خلالنا مطرح” ثم يمضي وكأن القبر حيّ يودعه فيبكي … ويبحث الآخرون عن بقايا أشلاء أحبتهم ليركضوا بها نحو موت آخر ..
لو كانت الحياة هكذا.. بمطلقها الغيبي بأن نكون على أهبة الفقد دوماً … وبأن نتربص بكل الأقدار البعيدة لجعل الموت استحالة على من نحبهم .. لو كان استحضار العدل في هذا الزمن صعباً لهذه الدرجة .. لماذا لنا هذه الأصوات العالية؟ .. لماذا لنا أرواح تحترق دائماً؟ .. لماذا كانت السماء “فيّنا” الوحيد من ظلال طائراتهم السوداء؟ .. ما بعد كل هذا يا ربها؟ .. ما بعد كل هذا؟!!
تؤرقني دائماً فكرة العودة إلى البلاد .. وكيف ستغرق أقدامنا بالدماء ذات يوم ..
كيف سنمشي ونحن نفكر بالآلاف الذين سقطوا باسمها حباً بالثورة أو صموداً!
كيف ستكون الشوارع متأهبة لاستقبالنا نحن الآمنون الآن في موتهم .. نحن الصرخة الملجومة بألف سوط وكلمة ومبرر وموت؟!
لماذا لا نستكين لفكرة الراحة بعيداً عنها؟ ..
أو … لماذا تركنا البلاد وحيدة يا أبي؟!
عذراً التعليقات مغلقة