منذ سنوات، والتراجع مستمر في وضع المعارضة السورية المسلحة، ولأسباب متعدّدة، منها التدخلات الكثيفة الخارجية، ومنها ما هو نابع من سياق تشكّلها، وبنياتها الداخلية، والعقلية السائدة بين قياداتها، والعقيدة التي تحرّك معظم نشطائها ومسؤوليها.
لم تظهر عيوب هذه البنيات ومخاطرها في المراحل الأولى، بسبب اتساع قاعدتها واحتواء الحواضن الشعبية الواسع لها، وكذلك بسبب الدعم متعدّد الأطراف الذي كانت تتلقاه من مصادر مختلفة ومتعدّدة، تضمن لكل واحدةٍ منها الحد الأدنى من استقلالها اللوجستي، حتى لو كان الأمر يختلف من الناحية السياسية. ولذلك لم تظهر نتائج هذه البنية في السابق بالخطورة التي نشهدها اليوم.
وبينما طوّر النظام استراتيجيات بديلة، وأعاد بناء استراتيجيته لاحتواء ضغط المعارضة والتصدي لها، بعد أن تكبّد هزيمة واسعة على يديها في السنة الأولى من القتال، بقيت هي على استراتيجياتها وخططها القديمة، ولم تتحرّك إلى الأمام أبدا، بل زاد تشبث قادتها بمناصبهم وتشكيلاتهم ومواردهم الخاصة، ولم يتطور أي نقد ذاتي، ولم يسفر أي نقاش عن إصلاحات، مهما كانت محدودة، داخل الفصائل التي قادها مسؤولوها، كما لو كانت ملكا لهم أو مليشيات خاصة تابعة لأشخاصهم.
بالتأكيد، لم يكن من المستحيل، لولا التدخل الواسع من الإيرانيين والروس، وعلى الرغم من الفوضى والانفلات وضعف التنظيم والتوجيه، وسوء استخدام القوى، والانقسام، أن تربح المعارضة الرهان وتفرض التغيير. لكن لا يعفي هذا الأمر من المسؤولية، ولا يقدم أي عزاء. كان من المفروض أن يدفع، بالعكس، وقد نبه إلى ذلك كثيرون وأكثر من مرة، خصوصا بعد التدخل الروسي، إلى مراجعة للخطط العسكرية وأسلوب الإدارة والقيادة السياسية. وهذا ما لم يحصل قط.
تغيّر الآن ميزان القوة بشكل كبير، وأصبحت معظم الفصائل محاصرةً تنتظر دورها في مخطط المذابح، كتلك التي تشهدها اليوم في الغوطة الشرقية، وشهدتها من قبل حلب وغيرها، والتي لا يخفي النظام وحلفاؤه تجهيزه لها على جبهات إدلب، وما تبقى من الجبهات في درعا وشمال حمص وحماة. فهو وحلفاؤه يبدون مستعجلين اليوم على حسم النزاع العسكري، وإملاء الحل السياسي القائم على فرض الأمر الواقع، قبل أن تتغير المعادلات الدولية والإقليمية، ويفسد الوضع وتضيع من يدهم الفرصة. وهذا ما جعل مصير قرار مجلس الأمن الجديد 2401، والذي أقر بهدنة مؤقتة في الغوطة الشرقية، لا يختلف عن مصير سابقيه، على الرغم من معالم التغيير في استراتيجيات الدول الغربية الرئيسية التي دفعت إلى تبنيه، لكنها لا تزال غير مستعدة للدفاع عن تنفيذه بأي شكل من أشكال القوة والإكراه.
(1)
في المقابل، لم يتغير الموقف الدولي الذي راهنّا طويلا على تغيره لصالح الضغط من أجل تسوية سياسية عادلة، والذي خذلنا منذ سبع سنوات، كثيرا، على الرغم من المظاهر. ولا يبدو، حتى الآن على الأقل، أنه في طريقه إلى التغير بشكل واضح لصالح رؤيةٍ أكثر توازنا تضمن الحد الأدنى من حقوق السوريين كشعب. ولا ينبغي أن نحلم، حتى لو وجهت ضربةً عقابيةللنظام في يوم ما، بسبب استفزازاته المستمرة، واستخداماته الأسلحة المحرّمة، أن يأتي المجتمع الدولي لنجدتنا، وأن تقدم الدول لنا حبل خلاص. بعضها لأنه ببساطةٍ عدونا ويطمح إلى أن يجهز علينا كليا، ولا يبقي منا أثرا، لا كثورة ولا كسوريين ولا كمسلمين ولا كعرب.
وبعض ثانٍ ربما أشفق علينا، لكنه لا يجد مصلحة كبيرة في التورّط معنا في حربنا التي تكاد تكون بالنسبة إليه يائسة، ومن دون عوائد واضحة. حتى لو استمرت مقاومتنا سنوات عديدة مقبلة.
يعطف بعض ثالث علينا ويؤيدنا، وهو على استعداد لتقديم الدعم لنا، لكنه لا يعرف كيف يفعل ذلك، ومع من يمكنه أن يتعامل، وكيف يمكن أن يتعامل مع هذا الشتات الكبير من القوى والمنظمات والفصائل والتجمعات والأحزاب والشخصيات التي لا يبدو أنها قادرةٌ على التفاهم في ما بينها، ولا على تشكيل جسمٍ متماسك، بل على وضع حد أدنى من النظام والانضباط داخل صفوفها، ولا أتحدث عن منظمات المعارضة السياسية والعسكرية فحسب.
ورابعا، لأن فقداننا الوحدة الفكرية، وليس السياسية والعسكرية فقط، أصبح عامل إحباط لأي طرفٍ يريد ويعتقد أن من مصلحته مساعدتنا، لكنه لا يثق في احتمال نجاح المراهنة علينا. هل سيراهن على ثورة إسلامية أم علمانية أم وطنية أم عربية أم كردية. لذلك، تخلت كل الأطراف المنخرطة في معركة مصيرنا عن فكرة سورية الموحدة البديل، واختارت أن تتعامل مع “الجزء” السوري الذي يبدو لها أكثر استعدادا لخدمة مصالحها. وصرنا لذلك مطية للقوى الأجنبية، وشجعنا كبيرها وصغيرها على أن يراهن على تفكّكنا ليقتطع لنفسه جزءا من وطننا، ويستثمر فيه للمستقبل، بدل أن نقنع الجميع بفائدة الرهان على وحدتنا، والاستثمار في مشروع سورية ديمقراطية واحدة وواعدة، ونشجعهم على الاعتراف بمصالحنا الوطنية، والقبول بهامش أكبر لمبادرتنا السياسية.
لدينا كل الحق في أن ندين قبح العالم، ونعبّر عن قرفنا واشمئزازنا من سلوكه وكيله بمكيالين أو أكثر، وتغاضيه عن المذابح التي تجري في بلادنا، إلا أن هذا لا يغير شيئا من حرج موقفنا العسكري والسياسي. ولا يعفينا من مسؤولية طرح أكثر الأسئلة دراماتيكية، بعد أن سقط رهاننا على تغير قريب في الموقف السياسي الدولي، يعوّض الخلل في توازن القوى العسكري، ويسمح بتقدم مفاوضات الحل السياسي التي تراوح في مكانها منذ سنوات. وندرك أكثر فأكثر اليوم أن القرارات الدولية تنحو إلى أن تتحول إلى حبر على ورق، مع تراجع الضغط الدولي، وتزايد الميل إلى الاعتراف بعوائد القوة الغليظة وحدها. وأهم هذه الأسئلة يتعلق بمعرفة خياراتنا أمام هذا الوضع الحرج، أو بالأحرى ما إذا كان قد بقي لنا خيارات.
في هذا السياق، تجرأ بعض أصدقائنا المخلصين، ربما من باب الحرص على حقن دمائنا، على دعوتنا، صراحة، إلى الاستسلام والتسليم للنظام، أي الاعتراف بالهزيمة وتسليم السلاح والإذعان لإرادة المنتصر. يعتقد الكاتب اللبناني، حازم الأمين، أن هذا الموقف يكاد يكون الوحيد الذي يوفر علينا مزيدا من الضحايا والدمار، ويبقى أقل تكلفة وضررا من الاستمرار في حربٍ خاسرة، لن تنتج إلا المزيد من الموت والخراب.
في المقابل، قسم منا، ربما الأكثر إخلاصا لمبادئ الثورة وتمسكا بحقوق الشعب المنكوب، اختار الموت بشرف على التسليم لقتلةٍ يعرف أنهم لن يرحموا أحدا، لا من الأهالي، ولا من المقاتلين. هؤلاء هم الذين أعدوا أنفسهم لمعركةٍ قاسيةٍ، ليس فيها خيار آخر سوى الشهادة أو النصر. هل صحيح أن خيارات الثورة والمعارضة أصبحت لا تبرح أقصين: الاستسلام بذلّ أو الانتحار بشرف؟
(2)
ما من شك في أننا خسرنا الجولة الأولى والأساسية من الحرب، وأن من غير المحتمل أن ينقلب ميزان القوى العسكري في القريب وربما قط، على الرغم من أننا لا ينبغي أن نستبعد تحولاتٍ إيجابية في المستقبل، بسبب تقلب الموقف الاستراتيجي الدولي وسيولته. لكن، مهما كان الحال، الاعتقاد أن إنهاء أزمة سورية الكبرى التي تداخلت فيها رهانات وقوى محلية وإقليمية ودولية عديدة ومتصارعة، بانتصار عسكري، يعني عودة نظام الأسد إلى الحكم، وهم كبير. فهو لم يعد له وجود أصلا، وما حل محله، حتى في مناطق سيطرته، وبصرف النظر عن جيوش الاحتلال، هو منظومة متنافسة من المليشيات التابعة للدول والجماعات المتنازعة، وكلها تخضع لمنطق إدارة التوحش من دون حدود.
والقصد القول إن الخروج من الأزمة، من دون اتفاق سياسي سوري ودولي، يعني أنه لن تقوم بعد ذلك للدولة في سورية، عقودا طويلة، قائمة، لا من حيث هي مركز قرار سياسي سيادي، ولا من حيث هي هوية وطنية جامعة، ولا من حيث هي حكم قانون، ولا من حيث هي إدارة، ترعى شؤون الناس وتنظم علاقاتهم بالقانون، وتشرف على تحسين أوضاعهم. سوف يبرز هذا الخروج، ويعزّز ظاهرة تلاشى الدولة، فكرة وتنظيما، مع تلاشي جميع وظائفها الاجتماعية العمومية، وتحولها أداةً من أدوات النهب والسلب والتسلط، ويفاقم من تنازع المليشيات المتناحرة على السيطرة عليها. وبدل المافيا الأسدية الواحدة التي كانت حاكمة قبل الثورة، سيجد السوريون أنفسهم في مواجهة عددٍ لا يحصى من مافيات المال والسلاح، التي تتناسل من بعضها وتعمل في العلن، وتتصارع في ما بينها، من دون براقع ولا أقنعة، على اقتسام الغنائم، بمقدار ما تتوحد على إخضاع السوريين وتطويعهم واستعبادهم.
في نظري، منذ زمن طويل، لم تعد التسوية السياسية، وما سمي الانتقال السياسي، مسألة سياسية أولا أو بشكل رئيسي، تُعنى بتقاسم السلطة بين نظام ومعارضة، فلم تعد هناك سلطة أصلا، وإنما نظام احتلال ومعارضات منقسمة ومتنازعة، ولا مجال لأي تقاسم أو اقتسام. إنما هي ضرورية كي تؤسس لمنظومة سلطة جديدة، متفاهم عليها، وترسم قواعد انتقال يحد من مخاطر تعميم المواجهات وانفلات الوحشيات، وتعميم سياسات القتل والانتقام. بمعنى آخر، أصبحت التسوية أو الحل السياسي المتفاوض عليه، الوسيلة الوحيدة لمنع المليشيات العاملة باسم النظام من الاعتقاد بالانتصار، وبحقها، لقاء ذلك، في امتلاك البلاد والتصرف بها كملكية خاصة، وقتل كل من وقف في وجهها أو عارضها، أو شارك من قريب أو من بعيد في الاحتجاج على أعمالها وانتهاكاتها، كما حصل في العراق، ولا يزال يحصل، وفي سورية أيضا. إن التفاهم على عملية انتقال مدروس نحو نظام جديد، مهما كانت صفته، حتى لو لم يكن ديمقراطيا تماما، لكن نظام وقانون، هو اليوم الضمانة الوحيدة لعدم رمي الشعب السوري عاريا من دون دفاع ولا حماية، مهما كان نوعها، لنهش كلاب المليشيات المسعورة، المحلية منها والأجنبية، وهذا من باب الحفاظ على كرامة الإنسان، في ما وراء صراع المصالح الاقتصادية والاختلافات السياسية والعقائدية، وحتى الوطنية.
القبول بخروج دموي من الأزمة، وبحسم عسكري على يد القوة العسكرية لإيران وروسيا لحساب النظام، ومن دون تسوية متفاهم عليها وتحت إشراف دولي، يعني المشاركة في دفع سورية وشعبها إلى كارثةٍ جديدةٍ أكبر من التي أنتجتها حرب السنوات السبع، وتعريض مئات آلاف السوريين، من الناشطين أو المقاتلين السابقين والشباب الذين حلموا بالحرية والكرامة، وملايين السوريين الذين دمرت شروط حياتهم وقتل أبناؤهم وهجروا من ديارهم، لعقوبات جماعية ودائمة أشنع من التي عرفوها بعد اندلاع الثورة، وإلى استئناف أعمال القتل والتعذيب والتنكيل والإبادة الجماعية التي لا يخفي النظام تمسكه بها، للرد على أي حركةٍ أو نقمة أو احتجاج، على أوسع نطاق. إنهاء النزاع من دون تفاهمات جدية ورعاية دولية يعني، ببساطةٍ، إطلاق يد نظام لم يتردّد في استخدام أي سلاح، بما في ذلك أسلحة الدمار الشامل، في شعب جُرد سلفا من أي قدرة على المقاومة أو الاعتراض. ويعني، أخيرا، تخلي العالم عن أي ذرة مسؤوليةٍ، وترك الجرح السوري الملتهب بحجم دولةٍ مفتوحا وفاغرا، من دون أي علاج أو حتى مسكنات.
ليس هناك في نظري مخرج ممكن للمحنة السورية أسوأ من الاستسلام. ولن تكون نتيجة ذلك كارثيةً على الشعب السوري الذي سوف يدخل حتما في عصر عبوديةٍ لم يعرفها شعب من قبل على يد جلاوزة مهووسين بالقتل وسفك الدماء، لكنها ستمثل استسلاما للعالم المتمدن أمام منطق الجريمة المنظمة وحروب الإبادة الجماعية، وبداية عصر جديد من البربرية، وانهيارا في القيم والمؤسسات السياسية والفلسفية والأخلاقية التي قام عليها تقدم المدنية في العالم أجمع.
(3)
لكن سوء هذ الخيار لا يجعل من خيار المرابطة في المواقع المدنية الثابتة، وانتظار الهجمات المتكرّرة للنظام وحلفائه على المقاتلين، والسماح بتحويل المدن والبلدات إلى حقول تجارب للأسلحة وامتحان درجة فتكها وقاتليتها على المدنيين، ليس الخيار الأكثر رجاحةً وحظاً في النجاح. فهذا هو الخيار الذي قاد إلى التراجع المضطرد خلال السنوات الخمس الماضية لفصائل المعارضة، وزاد من تضييق الخناق كل يوم أكثر عليها، وأدى إلى محاصرتها، كما حوّل المدنيين، وهم أهالي المقاتلين أنفسهم، إلى أهداف سهلة للقصف الأعمى والقتل بالجملة، وجعل منهم رهائن وقتلى مع وقف التنفيذ. بهذا الخيار الاستراتيجي، تضع الفصائل نفسها وحاضنتها الشعبية بالفعل في موقف يائس، تحت رحمة مطرقة القصف المستمر من دون أفق للخروج، وأمل بإمكانية استئناف القتال من أجل التغيير، بانتظار المعونة الإلهية أو التغير المشكوك فيه في الموقف الدولي.
ليس للصمود العسكري في مواقع ثابتة قيمة عملية، طالما لم يعد للتضحيات المقدمة فيه، مهما أظهر فيه المقاتلون من استعداد للشهادة، وإرادة لا تتزعزع في النصر، عائد مباشر على عملية حسم المعركة العسكرية أو السياسية. ومهما أظهرت الفصائل المسلحة التي تكاد تكون جميعا اليوم في وضع الحصار، من البسالة ونكران الذات، لا يمكنها أن تستمر إلى ما لا نهاية في صد هجومات متكرّرة بقواتٍ أكثر منها عدةً وعددا بما لا يقاس، من دون أن تتعرّض، مع الوقت، للاستنزاف النفسي والعسكري، وتجبر، في مرحلةٍ لاحقة، وتحت ضغط السكان المكلومين، على إخلاء مواقعها، مع ما يعنيه ذلك أيضا من تكرار مآسي اصطياد المقاتلين، وتضخيم قوافل المهجرين والمشردين وخراب المدن والحواضر، وتفريغها من سكانها وتحويلها إلى مستوطنات للمليشيات الطائفية المحلية والأجنبية. النتيجة تضحيات باهظة وعوائد سياسية قليلة إن لم تكن معدومة.
ليست هناك قيمة للصمود وإطالة أمد الصراع إلا بمقدار ما يساعد على تقديم فرص إضافية، أو أكبر، لتغيير ميزان القوى، وشل قدرات الخصم، بتكبيده خسائر مستمرة، حتى لو كانت جزئية، لكنها تحرمه من الاستقرار وتضرب معنويات جنوده، وتزعزع حساباته، إلى أن يقتنع بأن القضاء على المعارضة مستحيل بمعركة عسكرية فاصلة أو أكثر، وأنه من غير الممكن إنهاء الحرب من دون القبول بمفاوضات، وبالتالي بتسوية سياسية. ولذلك ارتبط الصمود بتكوين مقاومةٍ تعتمد على قوى خفيفة ومتحركة، تصعب هزيمتها أو القضاء عليها، مهما كان حجم الإصابات الفردية التي يمكن أن تتكبدها، وأصبحت حرب المقاومة أو الغوار الاستراتيجية الوحيدة، لمواجهة قوة عسكرية كبرى منظمة بقوى شعبية بسيطة، لا تحلم بأن توازيها في العدة والعدد. هذا هو درس حروب التحرير الوطنية، كما حصل في الجزائر وفيتنام وغيرهما، وهو لا يزال حيا في أكثر من منطقة. فمن دون تهديد الإيرانيين والروس بحربٍ طويلة، تستنزفهم، أو ما نسميه مستنقع فيتنام، وأن تكلفتها سوف تكون أعلى مما يمكنهم تحمّله، سياسيا وإنسانيا وماديا، لن يتخلوا أبدا عن هدف سحق الثورة وتحقيق الانتصار الناجز والكامل.
والحال أن فصائل المعارضة فعلت العكس تماما. حاولت أن تقلد الجيوش النظامية بالعتاد والتنظيم، فسمّت نفسها كتائب وألوية وفرقا وحتى جيوشا، وجمدت قواها في مواقع ثابتة ودائمة، وتخلت عن الحركة لصالح النظام، وتركت نفسها تتحول إلى جيوب مفصولة عن بعضها، من دون قيادة واحدة، ولا استراتيجية طويلة النفس، وحكمت على نفسها بأن تصبح لقمة سائغة لخصومها. صمد هذا الوضع في المراحل الأولى، بسبب اتساع دائرة انتشار الفصائل وعجز النظام عن تغطيتها، لكن مع تقدم الوقت وتراجع الدعم للفصائل وإعادة تنظيم قوات النظام وحلفائه، ظهرت العيوب القاتلة لمثل هذه الاستراتيجية. ومما يزيد اليوم من تشبث الإيرانيين والروس بمبدأ الحسم العسكري، ورفض الدخول في أي مفاوضات للحل السياسي، هو اقتناعهم بأن القضاء على قوى المعارضة المحاصرة أصبح في متناول اليد، وأن المسألة مسألة وقت.
(4)
في الوقت الراهن، وأمام التحديات المتعددة والكبيرة التي تواجهها القضية السورية، لا أرى خيارا سوى الصمود، حتى يمكن الخروج من المحنة عن طريق تسوية سياسية، تضمن الحد الأدنى من مصالح السوريين في الانتقال السياسي والمحاسبة العادلة واستعادة الأمن والسلام وحكم القانون. وعلى جميع الأحوال، سيبقى ثمن الاستسلام، بعكس ما يعتقد دعاته، أعلى بكثير من كلفة المقاومة والصمود.
لكن، في الوقت نفسه، أرى أن الصمود أصبح مستحيلا، مع الحفاظ على استراتيجية الفصائل الحالية التي تحكم على نفسها فيها بالجمود والتقوقع والتشتت، وتترك لخصومها حرية الحركة الكاملة، وتنتظر صابرة ومصابرة هجوماتها المتكررة عليها.
يحتاج تمديد أجل الصمود وبناء بنية سياسية وعسكرية جديدة لمقاومة وطنية موحدة، سواء ولدت من رحم قوى وفصائل قائمة أم من خارجها، والانتقال نحو دفاع متحرك يستخدم القوى المتوفرة بعقلانية أكثر، لتحقيق أهداف سياسية، تزيد من قوة موقف المعارضة وفرصها في فرض التسوية المطلوبة على الدول المحتلة، تغييرا جذريا في استراتيجية المعارضة، وتبني تكتيكاتٍ تتبع لمنطق حرب العصابات، لا المواجهات النظامية المباشرة، وقد بدأ بعضها يقوم بذلك، ولو على نطاق محدود. لكنه يحتاج بشكل أكبر إلى حل مشكلة القيادة السياسية والعسكرية، وبناء خلية عمل وطنية موحدة، تدرس ميزان القوى، ولديها القدرة على رسم خطة موحدة، أو مشتركة، للخروج من مواقع الدفاع الساكن التي تحاصر فيها الفصائل اليوم نفسها بنفسها، وإلى برنامج عمل واضح، يعيد تعبئة قطاعات أوسع من الرأي العام، ويدفعه إلى المشاركة في تحقيق أهداف الثورة في الداخل والخارج، كما يستدعي تغيير نمط علاقات التبعية والالتحاق التي عطلت التفاعل مع الدول والمجتمع الدولي، وجميع الأطراف الداعمة والمناوئة معا. وكذلك تغييرا عميقا في الممارسة السياسية التي بقيت، خلال السنوات الماضية، تابعة للإنجازات العسكرية وملحقة بها، وفاقدة أي مبادرة ذاتية. ولم تقدم أي قيمة إضافية حقيقية. ويستدعي كذلك تجديد خطاب المعارضة، وتحريره من الكليشيهات الثورجية التقليدية والقوالب الخشبية، والرهان على إمكانية التواصل من جديد مع قطاعات الرأي العام السوري، بجميع أطيافه وفئاته، لشرح تطورات (وتعقيدات) القضية السورية التي أصبحت قضية كل السوريين، لا قضية قوى الثورة والمعارضة فحسب، وتطمين جميع الفئات والجماعات على حقوقها ومصالحها، وإعادة الأمل لجمهور السوريين عامة، وإشراكهم في التفكير والقرار: جمهور الثورة الذي قدم أعظم التضحيات في سبيل تحقيق غاياتها، وكان الخاسر الأكبر حتى الآن فيها، والجمهور السوري الواسع الذي تعاطف معها عن بعد أو خاف من نتائجها، وكذلك الجمهور الذي وقف ضدها بداية، وهو يشهد اليوم سقوط رهاناته وأوهامه جميعا، بعد أن تحول النظام إلى مطيةٍ لقوى الاحتلال ومزرعة لمليشيات الحرب ومافيات المال، وعبثها بمصائر البلاد والدولة ومستقبل جميع السوريين.
لا ينبغي أن نأمل بدخول قوى الاحتلال، والأسد لم يعد اليوم سوى واجهة لحكمها، في أي مفاوضاتٍ جدية على الانتقال السياسي، ما لم نعمل على إنهاكها وإشعارها بأنها لن تتمكّن من الوصول إلى أهدافها بالقوة العسكرية. ولن تتراجع هذه القوى عن هدفها في القضاء على الثورة، ومن ورائها على وحدة الشعب السوري، وسورية نفسها إذا استدعى الأمر. وفي الوقت نفسه، لا ينبغي أيضا أن يدفعنا ضعفنا العسكري، واقتناعنا بعجزنا عن تحقيق حسم عسكري، إلى فقدان الأمل في قدرتنا بوسائل محدودة على دفع العدو إلى اليأس من نصر حاسم، وإجباره على القبول بالحل التفاوضي. بالعكس، أعتقد أنه لا تزال لدينا، إذا أحسنّا استخدامها، وعرفنا عناصر ضعف نظام الاحتلال وعناصر قوتنا الذاتية، وتوق شعبنا إلى وطن حر وسلام عادل، فرص قوية للتقدم وتحقيق التطلعات المحقة والمشروعة للسوريين.
ومهما كان الحال، لابد أن ندرك أن أحدا لن يبحث لنا عن حل، إن لم نبحث عنه بأنفسنا، لا في صف الدول التي تدّعي صداقتنا، ولا من باب أولى من بين الدول التي تعلن العداء صراحة لقضيتنا. لكل الأطراف مصلحة في غيابنا وتغييبنا، فهو شرط حضورها مكاننا والمشاركة في اقتسام عوائد هزيمتنا واندحارنا. ولن يكون هناك حل إلا ذاك الذي ننجح نحن في فرضه، بقوانا الذاتية، على جميع الأطراف.
هذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم، والذي يحتاج رده إلى عمل فكري وسياسي وتربوي جماعي، بالكاد بدأناه اليوم.
عذراً التعليقات مغلقة