بالإذن من محمود درويش، فالذكريات ما عادت تخيف الغزاة، بات اهتمامهم منصبّاً على اللابتوبات! منذ أيام نشر موالون غاضبون تسجيل كاميرا مراقبة في إحدى رياض الأطفال في مدينة طرطوس على فيسبوك، ظهر فيه عنصر من جيش الأسد بلباسه العسكري، يدخل إحدى الغرف، وفور رؤية لابتوب على الطاولة استيقظ “شيطان اللابتوب” الساكن في كل طاغية، وبدأ يزنّ قائلاً: لابتوب.. لابتوب.. لابتوب!
وسريعاً استجاب الرجل، وبكل هدوء جمّع الشاحن ودسّه مع اللابتوب تحت اللباس العسكري المقدس وانسحب محملاً بالغنائم.
إن علاقة الطاغية بالكومبيوتر المحمول “اللابتوب” علاقة جدلية محيّرة، فهذا الجهاز العجائبي الذي يصل المتآمرين بالصهيونية العالمية والمخططات الماسونية والمؤامرات الإمبريالية هو ذاته ما يطمح الطاغية إلى سرقته من منزلٍ أو مكتبٍ، أو قتل صاحبه ليقدمه بكل حنان هدية لأولاده ليلعبوا به.
وقد مرّت هذه العلاقة بتطورات عدّة، فقديماً كان يكفي الحصول على اللابتوب للانصراف، أما الآن فلا بد من الحصول على الشاحن، بات الطاغية مثقفاً لابتوبياً، يعرف جيداً أهمية الشاحن، وبعضهم قد يسألك بكل وقاحة عن الحقيبة وربما عن الفأرة!
ولسنوات طويلة عانيت وعائلتي من هذا الجهاز اللعين. بدأت المعاناة في 2009 عندما داهمت المخابرات العسكرية منزلنا بعد اعتقال أخي، أخذوا حينها الكومبيوتر المنزلي، ثم شهق عنصر الأمن عند رؤية اللابتوب الذي اشتريته قبل أيام قليلة، وصرخ “لابتوب سيدي”، واستنفر الجميع وكأن قنبلة حُرّرت من أمانها، ولم يتركوا اللابتوب وشأنه إلا بعد أن أكد لهم أبي أن ابنه البعثي يكتب عليه مَحَاضِر الاجتماعات الحزبية واقتراحات الرفاق، وأنهم وحدهم من سيتحمّل مسؤولية الإضرار بمسيرة التطوير والتحديث إن هم صادروه!
وفي الخدمة العسكرية 2011، لم يكن الوضع أفضل حالاً، فجهاز الراديو غريب الشكل، الذي اشتريته ليكون مؤنساً لي في وحشة البادية السورية القاحلة، حرّك الريبة في صدر العقيد الركن نائب قائد الكتيبة، فقال لي: “قرد سلوم، ليكون لابتوب بدك تتواصل فيه مع الإرهابيين”. عجز لساني حينها عن الإجابة أمام هذه العبقرية الفذة وكدت أعترف أنه لابتوب فعلاً، ولم تهدأ شكوكه إلا عندما أقسمت له أنني سأهديه إياه عندما أنهي عسكريتي!
مع تنظيمي “داعش” و”النصرة” كان الوضع أكثر مأساوية، فاللابتوب سليل الإمبريالية أصبح أداة كافرة نقدم من خلالها مواقع المجاهدين للتحالف الدولي، ونتواصل مع المنظمات التنصيرية لنقبض ملايين الدولارات لقاء بيع ديننا ودماء أهلنا، ولذلك توجّب عليهم أن يغنموه حيث وجدوه.
ففي 2013، داهم “داعش” مكتب مجلة “الغربال”، التي كنتُ قد أسستها مع بعض الأصدقاء، وقام باختطافي مع كل ما وجده من لابتوبات. عدت أنا بعد أيام، ولكن ثروة سنوات طويلة من مكتبات إلكترونية نادرة ومجموعات أرشيفية ضاعت إلى الأبد.
ومنذ أيام، كرر عناصر “النصرة” الأمر نفسه، عندما اختطفوا أخي، ذاته الذي اعتقله الأمن العسكري سابقاً، وسطوا على اللابتوب التعيس الذي كانت تتواصل من خلاله أمي مع أولادها وأحفادها المبعثرين في دول المنطقة.
خلال السنوات الماضية، أخفيت اللابتوب في أماكن لا تخطر على بال، فمع كل تمدّد لمجموعة متطرّفة، ومع كل تهديد أو وعيد من قبل قائد ثوري مُلهَم كان علي البحث عن مكان جديد لإخفاء اللابتوب، دفنته مرة في ليلة ظلماء في حديقة المنزل دون أن أذرف عليه دمعة، وكفّنته مرة بأكياس النايلون وتركته يغرق في خزان المياه، وعلى الحدود بصحبة المهرّب كنت مستعداً لإنكاره في سبيل النجاة بأولادي، كما أنكر بطرسُ المسيحَ.
ما سردته هنا يعرفه كل من عاشوا السنوات الماضية في صفوف الثورة السورية، ويعرفون “قلق اللابتوب” وهمّ إخفائه، وصعوبة الحصول على بديل له في حال سرقته أو تحطيمه، ويعرفون كيف تحوّل موقف الطغاة إزاء اللابتوب من الخوف منه مع صراخ عناصر المخابرات في بيتنا عام 2009 “لابتوب سيدي”، إلى الجشع القاتل للحصول عليه مع صراخ عناصر “داعش” وهم يسرقون تجهيزات راديو فرش بكفرنبل بجنوب إدلب عندما قال أحدهم باللهجة المحلية: “ياعين الله، شقد عندهم لابتوبات، والله لنكيف”.
لقد اختطف الطغاة خلال سنوات الثورة آلاف اللابتوبات، وما زالوا حتى الآن يحاولون أن يفهموا كيف كانت تبيض للعلمانيين الكفرة ملايين الدولارات، أو كيف كانت تتنزّل منها المؤامرات الماسونية والإمبريالية لتنسف الوحدة الوطنية وأمن الوطن.
عذراً التعليقات مغلقة