مقدمة
قرَّر رئيس إقليم كردستان العراق، الذي يتمتع بالحكم الذاتي، مسعود بارزاني، الدعوة لاستفتاء حول تقرير مصير الإقليم في 7 يونيو/حزيران 2017؛ وعُقد الاستفتاء بالفعل في 25 سبتمبر/ أيلول 2017. أحدث القرار مواجهة عاصفة من الشجب والتهديد طوال الأسابيع السابقة على موعد الاستفتاء، عراقيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، لكن حكومة الإقليم أصرَّت على إجراء الاستفتاء ضمن حدود كردستان المعترف بها من بغداد، كما في المناطق المتنازع عليها مع الحكومة الاتحادية، والتي تصفها أربيل بـ”المناطق الكردية خارج الإقليم”.
كانت توقعات بارزاني أن يشهد الاستفتاء مشاركة مرتفعة من الناخبين الأكراد، ولكن نسبة المشاركة لم تتجاوز 72 بالمئة. إن صحت الأرقام التي أعلنتها هيئة الانتخابات في حكومة الإقليم، فلابد أن تعتبر المشاركة عالية نسبيًّا، ولكنها جاءت أقل من توقعات قيادة الإقليم. وربما كانت المشاركة المنخفضة في محافظة السليمانية (55 بالمئة)، نتيجة حجم الخلافات السياسية بين أربيل والسليمانية، تكشف السبب الرئيس خلف نسبة المقترعين في عموم الإقليم التي كانت دون توقعات حكومة بارزاني.
بيد أن ذلك لم يمنع مشاهد الاحتفال العارمة التي عاشتها المدن الكردية الرئيسة مساء يوم الاستفتاء، بعد أن أُقفلت صناديق الاقتراع. هذه هي المرة الأولى في تاريخ المشرق الحديث، ومنذ بروز الفكرة القومية، التي يعبِّر فيها قطاع ملموس من الأكراد عن حقهم القومي في تقرير مصيرهم. ولذا، وبالرغم من تهديدات بغداد وطهران وأنقرة، لم يكن غريبًا أن يرى العديد من الأكراد الاستفتاء مناسبة للاحتفال.
هذا لا يعني بالتأكيد أن أربيل لا تكترث بتهديدات الشركاء في بغداد وفي عواصم الجوار الكبرى. خَلْف عناد بارزاني وتصميمه على عقد الاستفتاء، الذي لا يخفى أنه يمثِّل بداية الطريق نحو ولادة دولة كردية مستقلة، أن حساباته في التعامل مع ردود الفعل العراقية والإقليمية والدولية، تقوم على تقديرات لا تكترث حرفيًّا للغة تهديدات المعارضين للاستفتاء التي استمرت إلى عشية انعقاده. ولكن أحدًا لا يمكنه التيقن بعد مما إن كان قرار بارزاني ارتكز إلى حسابات صحيحة. وليس ثمة شك في هذه المناسبة أن الفارق بين الحسابات الصحيحة والخاطئة سيكون باهظ التكاليف، للأكراد، وللعراق، وللجوار الإقليمي برمته.
هذه قراءة أولية للمناخ الذي أحاط باستفتاء تقرير المصير في كردستان العراق، ولردود الفعل التي أثارها في بغداد والإقليم، وللقوى التي شجَّعت أربيل وتلك التي عارضتها؛ ومحاولة لاستطلاع العواقب التي يمكن أن تتلو عاصفة عقد الاستفتاء.
انقسام داخلي وحملة تهديد خارجية
أعلن مسعود بارزاني عن رغبته في استفتاء مواطني الإقليم الكردي العراقي، بكافة شرائحهم، حول حق الإقليم في تقرير المصير قبل أكثر من ستة شهور؛ ولكن موعد الاستفتاء لم يُحدَّد إلا في 7 يونيو/حزيران 2017. في البداية، لم تأخذ الأطراف المعنية إعلان بارزاني مأخذ الجد، ولكن ما إن اتضح أن حكومة أربيل عقدت العزم على عقد الاستفتاء، غير المسبوق في تاريخ المشرق الحديث، حتى بدأت ردود الفعل في التبلور.
خلال الأسابيع القليلة التي سبقت موعد الاستفتاء، عوَّل المعارضون الرئيسون لخطوة أربيل، سيما الحكومة الاتحادية في بغداد، وتركيا، وإيران، على أن الضغوط الأميركية والوساطات الدولية ستنجح في إلغاء الاستفتاء أو ترحيله لأجل غير مسمى. ولكن عرضًا قدَّمته كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والمبعوث الأممي للعراق، في 14 سبتمبر/أيلول 2017، لتأجيل الاستفتاء وبدء مفاوضات بين بغداد وأربيل لم يُستقبل إيجابيًّا، لا من الحكومة العراقية الاتحادية ولا من رئاسة الإقليم الكردي. كما انتهت وساطة الرئيس العراقي، فؤاد معصوم، الكردي من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وأخرى تعهَّدها قائد قوات القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال سليماني، إلى المصير نفسه.
وقد واكبت المبادرتين جملة من التصريحات والخطوات التهديدية من قبل بغداد وأنقرة وطهران. أقرَّ البرلمان العراقي، بأغلبية عربية، سُنِّية وشيعية كبيرة، طلبًا تقدَّم به رئيس الحكومة حيدر العبادي لإقالة محافظ كركوك، الكردي من الاتحاد الوطني، الذي لم يعارض الاستفتاء ولا عقْده في محافظته، التي تقع ضمن المناطق المتنازع عليها. كما أصدرت المحكمة العليا العراقية، 18 سبتمبر/ أيلول 2017، حكمًا بوقف عقد الاستفتاء حتى ينتهي النظر في الاعتراضات الدستورية عليه. أعلن رئيس الحكومة العراقية بوضوح أن الحكومة الاتحادية لن تعترف بالاستفتاء ونتائجه، بل وتعتبره خطوة أحادية، غير شرعية. وعندما ذكر رئيس الإقليم الكردي في مؤتمر صحفي، في 24 سبتمبر/أيلول 2017، أن الاستفتاء لن يكون نهاية الطريق، وأنه سيعمل مباشرة بعد ظهور النتائج، على بدء مفاوضات مع بغداد، ردت الحكومة العراقية بأنها لن تشارك في أية مفاوضات على أساس من الاستفتاء ونتائجه.
تلقت بغداد دعمًا صريحًا لموقفها من إيران وتركيا، اللتين صدر عن مسؤولين في حكومتيهما سلسلة من التصريحات المنددة بالاستفتاء وسياسات رئاسة الإقليم الكردي، بمن في ذلك وزيرا خارجية البلدين، والرئيسان، حسن روحاني ورجب أردوغان، ورئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، ومسؤولا الأمن القومي في البلدين. وكلما اقترب موعد الاستفتاء، ازدادت وتيرة تصريحات المسؤولين الإيرانيين والأتراك وارتفعت نبرتها. اعتبر كل من الدولتين الاستفتاء خطوة غير شرعية، وهدَّدتا باتخاذ إجراءات عقابية ضد الإقليم الكردي العراقي.
وكان لافتًا أن المسألة الكردية احتلت موقعًا بارزًا في مباحثات رئيسي أركان الجيش الإيراني والتركي، خلال زيارة غير مسبوقة قام بها الأول لأنقرة في 15 أغسطس/آب 2017. كما أُعلن لاحقًا أن رئيس الأركان التركي سيقوم هو الآخر بزيارة طهران قبل موعد زيارة الرئيس أردوغان للعاصمة الإيرانية، في 5 أكتوبر/تشرين الأول 2017. في 23 سبتمبر/أيلول 2017، عقد رئيس الأركان العراقي مباحثات مفاجئة في أنقرة مع نظيره التركي، وأُعلن في أنقرة عن عزم رؤساء الأركان الثلاثة، التركي والإيراني والعراقي، عقد لقاء مشترك في القريب العاجل. كما اتفقت تركيا والعراق على بدء مناورات عسكرية مشتركة في الجانب التركي من الحدود، ابتداء من 26 سبتمبر/أيلول 2017.
صباح يوم الاستفتاء، أكد أردوغان أن مجلس الأمن القومي التركي سيُقَيِّم الإجراءات التي ستُتخذ ضد الإقليم الكردي في العراق، بدون أن يكشف عن طبيعة هذه الإجراءات. وأعلن الناطق باسم الحكومة الإيرانية عن قيام طهران، بطلب من بغداد، بإغلاق مجالها الجوي أمام حركة الطيران من الإقليم الكردي. كما قالت الحكومة العراقية إنها طالبت حكومة الإقليم الكردي بتسليم المطارات في الإقليم والمعابر البرية مع إيران وتركيا وسوريا للحكومة العراقية.
يخشى العراق، المعني الأول بالمسألة، من أن يؤدي الاستفتاء إلى انفصال رسمي للمنطقة الكردية، وأن تكون مثل هذه الخطوة مقدمة لتجزئة البلاد. أما إيران وتركيا فتعتبران قيام دولة كردية في العراق تهديدًا لوحدة ترابهما، ومحفزًا لمطالب كردية مماثلة في الدولتين التي تحتضنان أعدادًا أكبر من الأكراد بين مواطنيهما. في كل من الدول الثلاث، ينذر إعلان دولة كردية مستقلة في شمال العراق بحرب إقليمية مريرة، سيما إن لم تتراجع أربيل عن مطالبها في المناطق المتنازع عليها.
دوليًّا، وبالرغم من أن المواقف لم تكن بحدة نظيرتها الإيرانية والتركية، جُوبه الاستفتاء بمعارضة معلنة. بعد محاولات وساطة وضغوط على أربيل، أصدرت الخارجية الأميركية بيانًا شديد اللهجة ضد الاستفتاء في 20 سبتمبر/أيلول 2017. ولم يكن خافيًا، على أية حال، أن المعارضة الأميركية لعقد الاستفتاء ليست مبدئية، بل ترتبط بالحرب على تنظيم الدولة وبرغبة واشنطن أن يوفر العراق الموحد فرصة لدفع النفوذ الإيراني في المنطقة إلى التراجع. عمومًا، أسهم الموقف الأميركي، المؤيَّد من أغلب القوى الدولية الأخرى، في صدور بيان من مجلس الأمن الدولي، في 21 سبتمبر/أيلول 2017، أعرب عن القلق من العواقب المحتملة للاستفتاء. وفي يوم الاستفتاء ذاته، أجرى كل من الرئيس التركي والإيراني اتصالًا منفصلًا بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تم خلالهما التوكيد على وحدة كل من العراق وسوريا.
داخل الإقليم، لم يكن موقف الأحزاب الكردية موحدًا؛ فقد كان الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يقوده بارزاني ويتمتع بنفوذ كبير في محافظتي أربيل ودهوك، القوة الدافعة خلف الاستفتاء. ولكن قيادات الحزب المنافس له، الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي تُعتبر محافظة السليمانية معقله الرئيس، إضافة لنفوذه في أوساط أكراد كركوك، خرجت بمواقف متفاوتة. كان القيادي في الاتحاد الوطني، ملا بختيار، أحد أبرز المؤيدين للاستفتاء؛ بينما عارض عقده في هذه المرحلة كل من بافيل طالباني، ابن مؤسس الحزب، جلال طالباني، والقيادي خسرو كوران، كما عارضت حركة التغيير (غوران)، المنشقة عن الاتحاد الوطني، وأغلب الإسلاميين الأكراد، عقد الاستفتاء.
بخلاف الإسلاميين، الذين لا ترتكز ثقافتهم إلى أسس قومية راديكالية، يتمتع كل من الاتحاد الوطني وحركة التغيير بعلاقات وثيقة مع إيران وبدعم إيراني. ولابد أن إيران مارست ضغوطًا كبيرة على قيادات الطرفين لدفعهما إلى معارضة عقد الاستفتاء، أو على الأقل توقيته. وإضافة إلى الضغوط الإيرانية، تنظر أغلب قيادات الاتحاد الوطني وحركة التغيير إلى الاستفتاء باعتباره مشروعًا شخصيًّا لبارزاني، الذي يحتل موقع رئاسة الإقليم منذ 2015 بدون سند دستوري، ويقود حكومة الإقليم بصورة أقرب إلى الزعيم العشائري المستبد منه إلى الحاكم الديمقراطي المنتخب.
السؤال المهم، في ضوء كل هذه المعارضة والتهديدات، هو: لماذا أصرَّ بارزاني ومعسكره على عقد الاستفتاء؟
حسابات بارزاني
بنى السيد بارزاني حساباته، فيما تعلق بتباين مواقف الأحزاب الكردية، على أساس أن ترحيب الرأي العام الكردي في الإقليم بالاستفتاء والسعي إلى الاستقلال عن العراق سيدفع المعارضين في النهاية إلى تغيير مواقفهم. وحتى إن لم تتغير هذه المواقف، فإن المعارضة لن يكون لها سوى تأثير طفيف على توجهات المقترعين، سواء بالذهاب إلى مقار الاقتراع للإدلاء بأصواتهم أو بالتصويت بنعم على سؤال تقرير المصير. والواضح أن حسابات بارزاني في هذا الشأن كانت صحيحة نسبيًّا؛ إذ لم يلبث قادة الاتحاد الوطني وحركة التغيير، وحتى القيادات الإسلامية، أن تراجعت عن معارضتها صباح يوم الاستفتاء وذهبت بصورة لافتة للإدلاء بأصواتها. ولكن مواقف الساعة الأخيرة لم تكن كافية لكسب الرأي العام في السليمانية، التي وقعت طوال أسابيع تحت تأثير الخطاب المعارض للاستفتاء؛ وهذا ما جعل نسبة المقترعين في محافظة السليمانية أقل بكثير من نظيرتها في محافظتي أربيل ودهوك.
بيد أن حسابات بارزاني الإقليمية كانت أكثر تعقيدًا؛ إذ تلقت أربيل دعمًا صريحًا من الدولة العبرية، حيث أعرب رئيس الحكومة الإسرائيلية طوال الشهور القليلة السابقة على موعد الاستفتاء عن تأييده لحق الأكراد في تقرير المصير ودعمه لبروز دولة كردية مستقلة في شمال العراق. وقد تصوَّر بارزاني ومؤيدوه أن الموقف الإسرائيلي سيعمل على تغيير المقاربة الأميركية من الاستفتاء ومن الدولة الكردية الموعودة؛ بل إن بإمكان أربيل، في كل الأحوال، استخدام الموقف الإسرائيلي، ومخاوف تركيا وإيران من تحول الدولة الكردية إلى منطقة نفوذ إسرائيلي كبير، للتأثير على موقفي تركيا وإيران. إضافة إلى ذلك، ثمة علاقات اقتصادية واستثمارية كبيرة بين كل من إيران وتركيا، من جهة، والإقليم الكردي، من جهة أخرى. وربما تصور معسكر بارزاني أن لا تركيا ولا إيران يمكن أن تضحي بعلاقاتها مع الإقليم، أو الاستثمارات الضخمة لشركاتها فيه. حسب قادة أربيل أن الاعتراض الإيراني-التركي، ليس سوى شأن مؤقت، موجه للرأي العام الداخلي؛ وما إن يطمئن الإيرانيون والأتراك إلى أن الدولة الكردية لن تكون مصدر تهديد أمني، ولا بؤرة لحركة جامعة كردية، حتى يعودوا إلى تطبيع العلاقات مع الكيان الجديد.
عارضت السعودية رسميًّا إجراء الاستفتاء في بيان لوزارة الخارجية على حسابها في تويتر، واتخذت الإمارات ذات الموقف، كما عبَّر عنه وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، على حسابه في تويتر، لكن هناك شخصيات مؤثِّرة سعودية وإماراتية، قريبة من مركز صناعة القرار، رحبت به، مما يشير إلى أن بعض الجهات في البلدين تُقدِّر أن انفصال الإقليم يُوقع أضرارًا فادحة بتركيا وإيران اللتين عارضتا الحصار المضروب على قطر.
الحقيقة، بالطبع، أن مشكلة بارزاني، وقيادة الإقليم الكردي، الكبرى ليست في حسابات عقد الاستفتاء؛ فالاستفتاء في النهاية ليس أكثر من إجراء؛ وفي ضوء انتشار قوات البشمركة الواسع في شمال العراق وشرقه، بفعل شراكة الحرب ضد تنظيم الدولة، لم تكن هناك من عقبات تُذكر أمام العملية الإجرائية للاستفتاء. المشكلة فيما بعد الاستفتاء، وما إن كانت حسابات قيادة الإقليم الكردي لمواقف القوى الإقليمية صحيحة أو مبالغًا فيها.
في اليوم التالي على عقد الاستفتاء، علَّق الرئيس التركي على توجهات قيادة الإقليم الكردي العراقي بصراحة حادة وغير معهودة، فقال أردوغان إنه تصور في بداية الأمر أن بارزاني لن يقوم فعلًا بعقد الاستفتاء، معترفًا بأنه أخطأ التقدير. ولكنه قال أيضًا: إن الاستفتاء غير شرعي، وإن شمال العراق لا يخص الأكراد وحسب، بل والعرب والتركمان والسريان والأيزيديين، وغيرهم؛ وأن أحدًا لن يعترف بالاستفتاء إلا إسرائيل، وأن تركيا لن تسمح بقيام دولة إلى جوارها تتحول إلى قاعدة للجماعات الإرهابية. وفي اليوم نفسه، تحدَّث على أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني للشؤون الخارجية وأحد أقرب الشخصيات لخامنئي، بصراحة لا تقل عن صراحة أردوغان. شكَّك ولايتي في شرعية إجراء استفتاء قامت به حكومة أربيل بدون إشراف من العراق أو مراقبة مستقلة، واتهم حكومة الإقليم بتزييف نسبة المشاركين في الاستفتاء ونتائجه. وأكد ولايتي على أن الشعب العراقي، موحدًا، سيواجه أية محاولة لتقسيم العراق، التقسيم الذي لن يخدم إلا مصالح إسرائيل والولايات المتحدة.
ولذا، فإن كانت كلمات أردوغان وولايتي تعني شيئًا، فلابد أن تقوم حكومة أربيل بإعادة تقدير العواقب.
مستقبل محفوف بالمخاطر
تعيش محافظات الأغلبية الكردية في شمال العراق حالة من الاستقلال النسبي عن بغداد منذ 1992 وتحولها إلى محمية أنجلو-أميركية في أعقاب حرب الخليج الأولى. لكن، وبالرغم من أن أكراد العراق تبنَّوا خيار المواجهة المسلحة مع بغداد منذ ثلاثينات القرن العشرين، وخاضوا سلسلة من الحروب المتقطعة مع الحكومات العراقية المختلفة، لم يكن لهم، في حسابات القوة، الحصول على حق الإدارة الذاتية بدون التدخل الأجنبي في شؤون العراق خلال العقود الثلاثة الماضية؛ فبعد غزو العراق واحتلاله في 2003، تحول الحكم الذاتي الواقعي في شمال البلاد إلى إقليم حكم ذاتي، أقرَّه دستور العراق الجديد.
بيد أن الإقليم ما كان له أن يتخذ خطوة مثل استفتاء حق تقرير المصير، التي لا يختلف أحد على أنها بداية طريق الاستقلال، قبل عامين أو ثلاثة؛ فقد وفَّرت الحرب ضد تنظيم الدولة منذ صيف 2014، التي يقودها الأميركيون، للإقليم إمكانات تسليحية هائلة، وأسَّست لشيء من شراكة حُسن النية بين أربيل وبغداد. وبذلك، اتسعت سيطرة الإقليم العسكرية، لتتجاوز حدود 2003 بصورة كبيرة. اليوم، تسيطر قوات البشمركة على كركوك، وأجزاء واسعة من محافظة ديالى، بما في ذلك مدينة خانقين الحدودية، وأجزاء لا تقل اتساعًا من محافظتي صلاح الدين ونينوى، على جانبي دجلة.
هذه مناطق متنازع عليها مع بغداد، ويفترض أن تنسحب منها قوات البشمركة وتعيدها لسيطرة الحكومة الاتحادية إلى أن يتم التوافق بين بغداد وأربيل حول حدود الإقليم. ولكن المؤكد أن حكومة بارزاني، الذي سبق أن قال عشية معركة تحرير الموصل من تنظيم الدولة: إن حدود الإقليم مرسومة بالدم، لن تنسحب بدون مواجهة مسلحة من هذه المناطق، سيما كركوك. وكركوك بالذات ليس لأن ثمة ارتباطًا قوميًّا للأكراد بالمدينة وجوارها؛ حيث إن كركوك في الحقيقة لا تعتبر تاريخيًّا منطقة أغلبية كردية، بل تركمانية، ولم يتواجد الأكراد فيها إلا منذ الخمسينات، عندما أخذت صناعة النفط العراقي في الازدهار وأصبحت المنطقة بؤرة جذب للعمالة والباحثين عن الرزق. أهمية كركوك لمستقبل الكيان الكردي تقع في موضع آخر.
يُصدِّر الإقليم الكردي زهاء 600 ألف برميل من النفط يوميًّا، وعندما كان سعر برميل النفط يفوق المئة دولار، كانت عوائده كافية لسدِّ حاجات حكومة الإقليم، بل وإطلاق مناخ من الازدهار الاقتصادي. ولكن انخفاض سعر النفط إلى حوالي الخمسين دولارًا، وتوقع استمرار هذا المستوى من السعر لسنوات طويلة قادمة، بفعل المتغيرات الجوهرية في طرائق إنتاج مصادر الطاقة في العالم، يعني أن الإقليم لن يستطيع تدبير شؤونه الضرورية بمعدلات التصدير الحالية. لتوفير موارد كافية لوجود دولة مستقلة، لابد من السيطرة على كركوك، التي سترفع معدلات تصدير النفط في الكيان الجديد إلى حوالي المليون برميل يوميًّا. وهنا تقع عقدة الكيان الجديد وعلاقته بالعراق وجواره.
لا بغداد، التي يُفترض أن تتحمل مسؤولية حماية مواطنيها وثروات بلادها، ولا أنقرة، التي تعتبر نفسها الوصي على تركمان المشرق، يمكن أن تتسامح في مصير كركوك. وإلى جانب التهديد الذي تراه إيران وتركيا من قيام دولة كردية في قلب المشرق، فالأرجح أن أنقرة وطهران ستقومان بدعم بغداد وتأييدها إن اتخذت أي إجراء تراه مناسبًا لاسترداد كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها، سيما تلك التي تعتبر مناطق تداخل إثني. وربما هذا ما كان يقصده رئيس الحكومة العراقية في كلمته لضباط قيادة الجيش صباح 26 سبتمبر/أيلول 2017، عندما قال إن حكومته مسؤولة عن حماية العراقيين كافة في أنحاء العراق، وإنها ستتخذ الإجراءات الأمنية الضرورية لتحقيق هذا الهدف.
وتؤكد مصادر موثوقة في بغداد أن الحكومة العراقية اتخذت بالفعل قرارها بالتقدم لفرض السيطرة الكاملة على كركوك وحقولها النفطية، بمجرد الانتهاء من تحرير حلبجة من سيطرة تنظيم الدولة. وفي ظل التوافق العربي، السُّني-الشيعي، على مواجهة خطوات أربيل، ليس من الصعب رؤية سعادة قادة العراق الجديد، الشيعة، بمناخ الإحياء الوطني العراقي، الذي أطلقته أزمة الاستفتاء الكردي.
بيد أن أنقرة وطهران تملكان وسائل وطرائق أخرى لحصار الكيان الكردي وخنقه، إن اختارتا فرض عقوبات على أربيل، بداية من إيقاف تصدير نفط الإقليم عبر تركيا، وإغلاق الحدود البرية والجوية، ووضع قيود على حركة المواطنين والمسؤولين الأكراد العراقيين. وبالرغم من أن المستبعد فرض مثل هذه العقوبات الثقيلة على الإقليم في المرحلة الحالية، فالأرجح أن ذهاب أربيل خطوة أخرى باتجاه إعلان الاستقلال سيقابَل مباشرة بعقوبات تركية وإيرانية.
لا يعيش العراق في فراغ أو عزلة؛ وكما دول المشرق الأخرى، يتصل مصير العراق بمصير جواره الإقليمي كله، من المتوسط إلى الخليج، ومن شواطئ البحر الأسود إلى بحر العرب. وربما يكفي النظر إلى الأزمة السورية لرؤية الارتباط الوثيق بين مصاير دول المشرق وشعوبه. ولأن المسألة الكردية هي في طبيعتها عابرة للحدود، فإن تفاقم الخلاف بين بغداد وأربيل قد يشعل النار في المشرق برمته.
- تقدير موقف صادر عن: مركز الجزيرة للدراسات
عذراً التعليقات مغلقة