ما أوصل العماد ميشال عون إلى سدة الرئاسة اللبنانية ليس الديمقراطية اللبنانية ولا البرنامج الإنقاذي الذي يحمله للخروج من حال الانهيار الذي يعانيه لبنان اقتصاديا وماليا، ولا مكافحة الفساد والخروج من نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية التي حولت الدولة إلى إقطاعيات يتم تقاسمها بعناوين طائفية ومذهبية، بل إن ما أوصل ميشال عون إلى الرئاسة هو خلاف كل ذلك.
فبعد نحو عامين ونصف العام من الفراغ الرئاسي، وأكثر من أربعين جلسة انتخاب، نجح الحلف الذي جمع الجنرال ميشال عون وحزب الله في منع إجراء الانتخابات النيابية تحت ذريعة عدم اكتمال النصاب، وتمّ عمليا تعطيل الدستور، باجتهادات فُرضت بالقوة ومن موقع رئاسة مجلس النواب، وهي تفقد رصانتها، من كونها تتيح بقاء الجمهورية بلا رئيس طيلة سنوات. لذا نجح عون في الوصول إلى الرئاسة عبر تطويع الدستور وتعطيله، ولم يدخل من بابه إلى سدة الرئاسة الأولى.
أيضا وصل الجنرال إلى القصر الرئاسي بعدما تمّ تقويض الديمقراطية، إذ رفض الجنرال، وحليفه حزب الله، خوض الانتخابات الرئاسية انطلاقا من إجراء منافسة ديمقراطية توصل من يفوز بأكثرية أصوات أعضاء البرلمان إلى القصر الرئاسي. وكان شعار عون وحلفائه عمليا “تعيين” ميشال عون رئيسا بحيث لا تكون عملية الانتخاب سوى عملية شكلية لا أكثر ولا أقل، وبالتالي فإن الجنرال وحليفه عبّدا طريق وصول الرئيس إلى القصر الجمهوري في بعبدا من خلال التأكيد على أن رئاسة الجمهورية في لبنان لا يمكن أن تكون نتاج عملية انتخابية، بل حصيلة سياسة تطويعية قائمة على ميزان قوى عسكري وأمني وطائفي، حوَّلَ رئاسة الجمهورية من رئاسة للدولة والشعب، إلى رئاسة تمثل كتلة في طائفة تستقوي بسلاح كتلة أخرى في طائفة أخرى. وهذا بحد ذاته ضرب لكل قواعد الديمقراطية التي ظلّ لبنان يراعي شروطها خلال العقود الماضية، وباتت معه عملية انتخاب الجنرال أثرا بعد عين.
لم يقترح العماد ميشال عون برنامجا إنقاذيا ليتبناه في سياق مسيرة الوصول إلى رئاسة لبنان، بل وضع كل خطابه السياسي وحراكه ضمن مسار التأكيد على أن الخلل في الدولة اللبنانية يكمن في عدالة تقاسم الحصص بين المسلمين والمسيحيين… بل أكثر من ذلك في أن سنة لبنان هم من صادر حصصا مسيحية، متفاديا توجيه أي إشارة قد تزعج حليفه حزب الله الذي ذهب بعيدا في انتهاك سيادة الدولة، وظل يجد في الجنرال عون غطاء لكل السلوكيات المتعارضة مع الدولة، من السلاح غير الشرعي إلى القتال في سوريا.
خلاصة ما استمسك به الجنرال ميشال عون هو الخطاب الطائفي الذي ابتزّ عبره كل خصومه المسيحيين، ونجح إلى حدّ بعيد في فرض معادلة جديدة داخل لبنان خلاصتها أن من يريد أن ينتصر في لبنان عليه أن يذهب حتى النهاية في تبني الخطاب الطائفي وتحويل الأزمة من أزمة وجود الدولة، إلى أزمة صراع على تقاسم المغانم بين رموز الطوائف السياسية وممثليها، ودائما على حساب الدولة.
الاستثمار في الطائفية والغَرْف من بئرها الآسنة، واستثمار مقولة الخطر على الأقليات، كل هذا وفّر للعماد ميشال عون قدرة إضافية على تعطيل الانتخابات الرئاسية، ووفر لحليفه حزب الله قدرة على المزيد من إضعاف الدولة وإبقائها معلقة، وأعطى غطاء لسلوكياته الأمنية والعسكرية المنافية، في الأصل، لسيادة الدولة ووجودها.
الأرجح أن حزب الله لم يكن يضيره أن يبقى الفراغ الرئاسي وأن تطول مدته، ما دام هناك من يستطيع أن يوفر له الذريعة، أي العماد ميشال عون. كما لا يضيره أيضا أن ينجح في فرض حالة الإذعان على خصومه بأن ينتخبوا أخيرا ميشال عون كما حصل أمس من قبل معظم ما كان يسمى قوى 14 آذار. فيما اللافت أن حالة الاعتراض على انتخاب ميشال عون رئيسا برزت من حلفاء حزب الله، وتحديدا الرئيس نبيه بري والنائب سليمان فرنجية. فهما اقترعا بورقة بيضاء، وهي إشارة اعتراض، بعدما كانا يسيران في خط انتخاب فرنجية رئيسا… لكن في إشارة إلى تخفيف حدة الاعتراض انحازا إلى الورقة البيضاء.
ولأن العماد ميشال عون سيكون وفيا للمنهج الذي أوصله إلى الرئاسة الأولى، وهو الذي يبلغ من العمر واحدا وثمانين عاما، لن يجد أمام الركام الذي وصلت إليه الدولة سوى البقاء على خياره في ما يسميه “حماية حقوق المسيحيين”، والتي لا تترجم في سياسة الجنرال سوى عبر الغرق في عملية عدّ المواقع والمراكز. تلك التي يرى أن مقتضى العدل أن يتولاها مسيحيون، ليس أيّ مسيحي، بل من ينتمي إلى تياره ويواليه. هذا على اعتبار أن شرط المسيحية السياسية هي ألا تكون على ضفة أخرى غير ضفته.
من هنا، وبعد ما فعلت المحاصصة الطائفية فعلها في البلد، فإن أقرب الخيارات المرجح أن يعتمدها الجنرال عون، هي السير قدما في رفع شعار حقوق المسيحيين، لا سيما أنه ضمن الطرف الآخر من يغريه هذا الخطاب ويستسيغه: لعبة حقوق الطوائف تزيد من شدّ العصب والاستقطاب، وهي كفيلة بتحويل الجمهور إلى أتباع بلا أسئلة ولا محاسبة للزعيم، وتعمم الخوف الذي يجعل من خيار الدولة الطبيعية وحكم الدستور والقانون أمرا بعيد المنال ومكلفا لأطراف اللعبة.
الصراع على الحصص هو ما سيبرز أخيرا، وهو كفيل بملء الفراغ في المرحلة المقبلة، ومقولة الميثـاقية التي رفعهـا الجنـرال عون، وبتفسير خاص وقاتل لمفهوم الدولة، هي في دمجها بالمحاصصة وإبعادها عن مفهوم المواطنة والدولة. إذ ليست الميثاقية بين المسلمين والمسيحيين على حساب القانون أو على حساب الكفاءة، ولا يمكن أن تكون منافية للمساواة بين المواطنين.
يصل ميشال عون إلى قصر بعبدا، وهو يـدرك أن مساحـة فعله السيـاسي والـوطني لا يمكن أن تقتـرب مـن المـس بسلطـان السلاح غير الشرعي، ولا بتمدد هذا السلاح خارج الحدود. لن يطالبه حزب الله باتخاذ موقف علني يشرعن سلاح حزب الله. هو يعلم أن الرئيس عـون لـن يقـارب هـذه المسألة، لا رهبة ولا خوفا، بل لأن عـون الرئيس سيسعى لاستكمال اللعبة التي أوصلته إلى سدة الرئاسة: الغرف من صراع العصبيات ليبقى الزعيم المسيحي الذي تغريه مقولة استعادة حقـوق المسيحيين، وإن كـانت حقوق الوطن والمواطن في مهب الريح.
* نقلاً عن: “العرب”
عذراً التعليقات مغلقة