عام على التحرير.. سوريا بين رماد الحرب وأفق الدولة الجديدة

مدين يحيى10 نوفمبر 2025آخر تحديث :
عام على التحرير.. سوريا بين رماد الحرب وأفق الدولة الجديدة
مدين يحيى

مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للتحرير، تبدو سوريا وكأنها تعيد قراءة نفسها من جديد ، فما بين التفاؤل الدولي المتزايد والواقع الداخلي المثقل بالتحديات، يقف الوطن على مفترق طرقٍ حساسة، عنوانها الأمل الحذر والعمل الهادئ. فالتحرير لم يكن نهاية المعركة، بل بداية اختبار حقيقي لقدرة السوريين على بناء دولةٍ تتسع للجميع، وتنهض من تحت الركام بثقةٍ ومسؤولية.

الاعتراف الدولي المتزايد بالدولة السورية الجديدة ليس مجاملة دبلوماسية، بل نتيجة مسار طويل من الصمود وإعادة التموضع السياسي. فمن واشنطن إلى عواصم أوروبا، ومن موسكو إلى العواصم العربية، بات واضحاً أن تجاوز سوريا لمحنة السنوات الماضية جعل منها رقماً صعباً لا يمكن تجاهله في أي معادلة إقليمية. هذا التحول لم يأتِ صدفة، بل كان ثمرة سياسة متأنية حافظت على توازنٍ دقيق بين الثوابت الوطنية ومتطلبات الواقع الدولي. فبينما اندفعت بعض الدول إلى التطبيع السياسي مع دمشق، فضّلت أخرى التريث ومراقبة خطوات القيادة الجديدة التي نجحت حتى الآن في إدارة مرحلة ما بعد الحرب دون انزلاقٍ أو ارتباك.

اقتصادياً، لا يمكن إنكار صعوبة المرحلة. فالعقوبات الغربية، وتداعيات الحرب، وتراجع البنية الإنتاجية جعلت من التعافي مهمةً شاقة. ومع ذلك، فإن المؤشرات الأخيرة — كبدء بعض المشاريع الاستثمارية الصغيرة، وعودة رجال أعمال سوريين من الخارج، وفتح خطوط تواصل اقتصادية مع دول عربية وآسيوية — توحي بأن التحول قادم، ولو ببطء. الدولة لا تتعامل مع الاقتصاد بلغة الوعود، بل بلغة الممكن والمتاح، وفق رؤيةٍ تراهن على إعادة بناء القدرات الذاتية تدريجياً.

سياسياً، يواجه الداخل السوري ملفات معقدة لا يمكن اختزالها بقرارٍ أو خطاب. مكافحة الفساد الإداري الموروث من النظام البائد، وإعادة دمج مناطق الشمال الشرقي والجنوب، والعلاقة مع “قسد”، كلها تحديات تتطلب وقتاً ومهارة سياسية. واللافت أن القيادة تتعامل معها اليوم بنَفَسٍ إصلاحي هادئ يوازن بين الحزم والانفتاح، مدركةً أن الاستقرار الحقيقي لا يُفرض بالقوة وحدها، بل ببناء الثقة وإعادة اللحمة الوطنية. فالرهان اليوم لم يعد على الانتصار العسكري فقط، بل على بناء دولة القانون التي تضمن للمواطن كرامته وأمنه وفرصه المتكافئة.

إقليمياً ودولياً، تتغير الموازين بسرعة. من التطورات في الشرق الأوسط إلى إعادة التموضع الأميركي والروسي، يبدو أن الجميع يعيد حساباته في ضوء واقعٍ جديدٍ يتشكّل. سوريا لم تعد ملفاً ثانوياً، بل بوابة توازنٍ في المنطقة. وقد يكون هذا ما يفسر الحذر الأميركي في التعامل مع الملف السوري، وما يمنح الزيارة المرتقبة للسيد الرئيس إلى الولايات المتحدة هذا الشهر أهمية استثنائية. فاللقاء المحتمل يحمل في طياته أكثر من دلالة: سياسية، وأمنية، واقتصادية. وهو إن تم، قد يفتح الباب أمام تفاهماتٍ أمنيةٍ جديدة، ربما تشمل تنسيقاً غير مباشر مع إسرائيل يضمن استقرار الحدود، ويتيح مناخاً مناسباً لإطلاق مشاريع إعادة الإعمار الكبرى.

قد يبدو هذا الطرح جريئاً للبعض، لكنه واقعي من منظور المصالح الوطنية. فالتاريخ القريب يثبت أن الاستقرار الأمني هو الشرط الأول لأي نهضة اقتصادية. التجارب من لبنان إلى العراق، ومن مصر بعد 2013، تُظهر أن الاستثمار لا يأتي إلا حيث يوجد أمان. لذا فإن أي تفاهمٍ أمنيٍّ يعزز الاستقرار في سوريا سيكون مفتاحاً لمرحلةٍ مختلفة: مرحلة يثق فيها المستثمر المحلي، ويعود فيها السوري المغترب إلى بلده ليشارك في إعادة البناء.

القيادة السورية تدرك أن السياسة في هذا العصر لم تعد تُقاس بالشعارات بل بالنتائج. فالخطاب الوطني اليوم يتجه نحو البراغماتية الإيجابية: الحفاظ على الثوابت، مع الانفتاح على كل ما يخدم المصلحة الوطنية. وهذا ما يجعل الموقف السوري أكثر نضجاً واتزاناً مقارنة بالسنوات الماضية، إذ لم تعد البلاد أسيرة الانفعال السياسي، بل باتت تتحرك وفق رؤيةٍ واضحةٍ تحفظ استقلال القرار الوطني دون عزلٍ عن العالم.

بعد عامٍ على التحرير، ما زالت التحديات كبيرة، لكن الثقة أكبر. فالشعب الذي صمد تحت القصف، وتجاوز الحصار، وواجه الانقسام، لا يمكن أن يعجز عن بناء مستقبلٍ أفضل. والمهم اليوم ألا يُترك التفاؤل رهينة الخطاب، بل أن يتحول إلى سياسات عملية تمسّ حياة الناس وتعيد إليهم الشعور بأن الدولة ليست بعيدة عنهم. فبين الأمل والتعب، هناك فرصة حقيقية لولادة سوريا الجديدة: دولةٌ قوية بعقلها، مرنة بسياساتها، متصالحة مع نفسها، وواثقة بأن طريقها نحو النهوض بات مفتوحاً، وإن كان شاقاً.

سوريا اليوم لا تحتاج إلى معجزات، بل إلى استمرار في هذا النهج المتوازن الذي يجمع بين الحكمة الوطنية والانفتاح الواقعي. فالتاريخ لا يرحم المتسرعين، لكنه ينصف الصابرين. وبعد كل ما مرّ، يبدو أن هذا الوطن الصابر بدأ يستعيد أنفاسه، وأن القيادة التي صانت وحدته قادرة على قيادته نحو مستقبلٍ يستحقه.

اترك رد

عاجل