السلطة الجديدة في سوريا ومصير قسد والفصائل الإسلامية

بكر صدقي23 يناير 2025آخر تحديث :
السلطة الجديدة في سوريا ومصير قسد والفصائل الإسلامية

لم تتمكن السلطة الجديدة في دمشق من مد سيطرتها إلى ما يتجاوز «المناطق الحمراء» سابقاً في خرائط توزع القوى، أي تلك التي كانت تحت سيطرة نظام الأسد المخلوع قبل الثامن من كانون الأول الماضي. وكأن «إدارة العمليات العسكرية» قد قامت بانقلاب عسكري سيطرت بموجبه على العاصمة ومدن أخرى، مع بقاء أجزاء واسعة من الجغرافيا السورية خارج سيطرتها، وذلك على رغم عدم اعتراض أي من سلطات الأمر الواقع في تلك المناطق على الثورة التي أطاحت بنظام الأسد، أو على الحكم الجديد في دمشق، أو على وحدة الأراضي والدولة السوريتين.
وتكررت تصريحات مسؤولين في حكومة دمشق بشأن وجوب حل جميع الفصائل نفسها وتسليم سلاحها وإدماج عناصرها في بنية جيش سوري جديد تحت مظلة وزارة الدفاع. ولكن دون تحقيق ذلك تحديات لا تقتصر على الفصائل المختلفة بذاتها، بل تتعداها إلى دول تدعم بعضها، وبخاصة تركيا والولايات المتحدة. لدينا عقدة قوات سوريا الديمقراطية التي تتجاذب مصيرها كل من قيادة حزب العمال الكردستاني وتركيا وسلطة دمشق. تقابلها فصائل ما يسمى بالجيش الوطني التابعة لتركيا التي تخوض معارك ضد قسد حول منبج وسد تشرين، إضافة إلى «قوات العشائر» التي تخوض معارك مماثلة في ريف دير الزور، وكانت مدعومة من الميليشيات الإيرانية قبل انسحاب الأخيرة من سوريا في أعقاب سقوط نظام الأسد.
وفي تركيا تتواصل ببطء خطوات «عملية سياسية» غامضة تم إطلاقها، قبل أكثر من ثلاثة أشهر، بمبادرة من زعيم التيار القومي المتشدد دولت بهجلي، وهو حليف الرئيس أردوغان، حين دعا الزعيم التاريخي لحزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان لإطلاق نداء يهدف إلى تخلي الحزب عن السلاح وتفكيك نفسه مقابل النظر في خروجه من السجن. وتبنى حزب المساواة والديمقراطية هذه المبادرة فقام وفد منه بزيارة أوجلان في السجن، ثم نقل نتائج الزيارة إلى الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان طالباً تأييدها.
واضح إذن أن ما تريده تركيا من هذه العملية الغامضة يتعلق بمستقبل «قسد» في سوريا أكثر مما بالمسألة الكردية في تركيا نفسها، فهذه الأخيرة «غير موجودة» وفقاً لتصريحات كل من بهجلي وأردوغان، بل يتعلق الموضوع بـ«مشروع سلام» قائم على «أخوّة عمرها ألف عام» بين الأتراك والكرد وفقاً لبهجلي. ويقتضي هذا المشروع، وفقاً لرؤية الدولة التركية، حل حزب العمال نفسه وإلقاء سلاحه، بعد أكثر من أربعين عاماً من الصراع المسلح. على أن يترجم ذلك في سوريا الجديدة بإنهاء مشروع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وتفكيك وحدات حماية الشعب، وتالياً قوات سوريا الديمقراطية، ودمج أفرادهما في بنية الجيش السوري الجديد.
بالمقابل تناور قسد في الوقت الضيق المتبقي لها قبل أن يحدد الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب مصير القوات الأمريكية في سوريا (ألفي جندي) التي تشكل مظلة حماية لها في مواجهة تركيا والفصائل التابعة لها. ومن حيث المبدأ لا ترفض قيادة قسد الاندماج في جيش سوري موحد، لكنها تطالب ببقاء قواتها كتلة واحدة مسيطرة على مناطق سيطرتها الحالية، أو ببعض التعديلات، وتتذرع بوجوب انتظار التئام مؤتمر الحوار الوطني الذي يفترض أن تنبثق منه حكومة انتقالية تتمتع بشرعية شاملة.

هذه التجاذبات المتضاربة، إسلامية الدولة ـ علمانيتها أو مدنيتها من جهة أولى؛ والتفاهم مع قسد أو إرضاء تركيا من جهة ثانية، تشل السلطة القائمة في دمشق أمام استحقاقات لا مفر منها

غير أن مشكلة السلطة في دمشق ليست مع قسد إلا في الجانب المتعلق بالضغوط التركية عليها بهذا الخصوص، بل مع الفصائل المسلحة الإسلامية غير القادرة على التكيف مع مفهوم للدولة السورية لا يقوم على حكم الشريعة الإسلامية، بل على دستور مدني وهوية وطنية سورية قائمة على المواطنة المتساوية بصرف النظر عن الهويات الفرعية التي قد ينتمون إليها. هذا ما تتطلع إليه قطاعات واسعة من السوريين ممن لا يمكنهم أن يقبلوا بحكم إسلامي، لا تقتصر على أقليات دينية ومذهبية كما يراد الترويج، بل تشمل كذلك كتلاً وازنة من المسلمين السنة من عرب وكرد وغيرهم.
هذه التجاذبات المتضاربة، إسلامية الدولة ـ علمانيتها أو مدنيتها من جهة أولى؛ والتفاهم مع قسد أو إرضاء تركيا من جهة ثانية، تشل السلطة القائمة في دمشق أمام استحقاقات لا مفر منها، وتمنع أحمد الشرع من إعلان توجهاته بصراحة، وهذا ما يزيد من تذمر السوريين بمختلف توجهاتهم فيطالبونه بإلقاء خطاب يجيب فيه على تساؤلاتهم وهواجسهم. يضاف إلى ذلك عجز الحكومة عن حل المشكلات الحيوية التي لا تقبل التأجيل، كالخدمات العامة ومصير الكتلة الضخمة من موظفي الدولة والقطاع العام الذين سيفقدون مصادر رزقهم وإطلاق عجلة الاقتصاد وإعادة الإعمار وغيرها كثير.
الواقع أن محدودية حجم جهاز «الأمن العام» يمنع السلطة حتى من ضبط الأمن بمعناه العادي في مناطق سيطرة سلطة دمشق في مواجهة تواتر أعمال السرقة وغيرها من الجرائم العادية في مختلف المدن السورية، ناهيكم عن قدرتها على فرض النظام العام في مناطق إضافية على فرض أن الفصائل المسيطرة فيها وافقت على حل نفسها والانضمام إلى جيش موحد لا يدخل فرض النظام العام ضمن مهماته.
في ظل هذه التعقيدات والمشكلات المتداخلة من السذاجة أن نتوقع عقد المؤتمر الوطني الموعود في مستقبل قريب. ولا يمكن بالمقابل استمرار الوضع الحالي المتسم بالغموض لفترة طويلة. ربما يتمثل السؤال الأساسي في مدى قدرة أحمد الشرع على التخفف من عبء هيئة تحرير الشام والفصائل الإسلامية الأخرى.

المصدر القدس العربي

اترك رد

عاجل