تثير التطوّرات الميدانية المتسارعة في سوريا منذ أيام عدّة أسئلة حول أسبابها وتداعياتها وعلاقتها بمجموعة عوامل خارجية وداخلية.
ذلك أنه بعد سنوات من تراجع القتال وتثبيت السيطرة الترابية لكلّ طرف بتوافق روسي وتركي وإيراني (وبقبول أمريكي)، ورغم بعض الخروقات وعمليات القصف التي نفّذتها قوات النظام ضد مدن وقرى ومخيّمات نازحين في الشمال الغربي، جاءت هجمات فصائل المعارضة وجبهة «فتح الشام» المتواصلة لتنهي «تجميد الصراع» بموجب ما عُرف بمسار آستانة، وتُبدِّل الواقع الميداني على نحو سريع ودراماتيكي.
فخلال أيام معدودة، انهارت مواقع الجيش السوري في أكثر من محور عسكري، وتغيّرت «الحدود» الداخلية، وأظهرت الخرائط التي تُتابع مباشرة أحوال الرقع الجغرافية التي تتحكّم بها الأطراف المتقاتلة تقدّم المعارضين و«فتح الشام» في عشرات البلدات ووصولهم بعد استعادة سراقب إلى قلب مدينة حلب وسيطرتهم على قواعد عسكرية وعلى مطار أبو الظهور وعلى مساحات واسعة تُحيط بطريق دمشق حلب السريع.
وقد يكون انهيار الدفاعات النظامية السورية مرتبطاً بعنصر المباغتة الذي اعتُمد في الهجوم غير المتوقَّع حجمه ومداه، وبتراجع تواجد مقاتلي حزب الله والميليشيات التي نظّمت إيران على مدى سنوات نقلها إلى سوريا والتي أمّنت للنظام انتشاره الميداني السابق، وبقلّة الذخائر الروسية الثقيلة المتبقية في سوريا نتيجة نقل العتاد بمعظمه إلى جبهات أوكرانيا، وبالتحضير الميداني الجيد من قبل معارضي النظام لعملية متدحرجة نجحت في الاختراق ثم وسّعت رقعة القتال لفرض تراجعات سريعة وغير منظّمة على أعدائها.
وإذا كانت قدرة المعارضين على إدامة سيطرتهم على ما انتزعوه من مناطق غير مضمونة في حال استقدمت روسيا أسلحةً وشنّت هجمات جوية مكثّفة عليهم في المقبل من الأيام، إلا أن شيئاً ما طرأ على المعادلة السورية، ولم يعد ما وَفّر بعد العام 2019 تراجعَ القتال أو تجميدَه، قائماً بنفس موازين قواه اليوم.
ويمكن القول إن أربعة أمور تفسّر ما جرى، لجهة توقيته وظرفه الخاص. وهي، رغم كونها تركية، إلا أنها لا تُلغي في أي حال أو تحجب الديناميات الداخلية السورية (ولنا عودة إليها).
الأمر الأول يرتبط بإرادة تركية بفرض واقع جديد أو بإظهار القدرة على فرضه، في مناطق الشمال السوري، بعد تراجع دعوات التطبيع بين أنقرة ودمشق، انطلاقاً من كون الأتراك يتحضّرون لوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. وثمة خشية لديهم من أن يفضّل الأخير الاتفاق مع الروس، وهو الذي كان لوّح في أواخر ولايته السابقة بالانسحاب من سوريا (من شرقها وشمالها الشرقي)، وما قد يعني ذلك من احتمال مدّ النفوذ الروسي نحو المناطق التي تنتشر فيها راهناً القوى الكردية تمهيداً لمصالحتها مع الأسد. كلّ هذا بموازاة رسائل روسية لترامب تعرض المساعدة على ضبط الحدود السورية اللبنانية لمنع تمرير الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله. وتعدّ تركيا التفاهمات الأمريكية الروسية إن حصلت، تهميشاً لها في سوريا وتصعيباً لأي مهمّة تقرّرها لاحقاً في مواجهة الأكراد، هاجسها الأول المُزمن في الداخل وعلى الحدود.
الأمر الثاني يتعلّق بزعم تركي مفاده أن توسيع الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها المعارضون الخاضعون لنفوذ أنقرة، على حساب النظام أو على حساب القوى الكردية، سيتيح نقل مئات ألوف اللاجئين السوريين من تركيا نحو سوريا. وهذا سيفتح الباب أمام أنقرة للمفاوضة على تمويل أوروبي يمكّن اللاجئين من الاستقرار، ويدفع عن أوروبا «مخاطر» محاولاتهم الدورية العبور نحوها في المستقبل.
الأمر الثالث يقوم على اعتبار تركيا أن تراجع الحضور العسكري لروسيا في سوريا بسبب الحرب الأوكرانية ولإيران وحزب الله بسبب الضربات الإسرائيلية والحرب اللبنانية فرصة ينبغي الاستفادة منها لخلق واقع يظهر هشاشة النظام السوري وحتمية سقوطه من دون دعم موسكو وطهران له، لفرض إملاءات لاحقة عليه في أي تسوية محتملة تنهي تصلّبه أو تذرّع الروس والإيرانيين بمعارضته لهذا أو ذاك من المطالب التركية، وهو غير القادر من دونهما على الدفاع عن معظم مناطق سيطرته.
الأمر الرابع، يتّصل بتحسين شروط انخراط أنقرة، انطلاقاً من الخريطة السورية وتخطّياً لها، في المسارات الإقليمية التي يمكن لحربَي غزة ولبنان وللمفاوضات الروسية الأمريكية والإيرانية الأمريكية أن تفضي إليها في لحظة تبدّل الإدارة في واشنطن. وتركيا تريد في هذا المجال دوراً في المفاوضات مع إسرائيل حول وقف حرب الإبادة في غزة، وتريد دوراً مركزياً في سوريا لا يُتيح للأسد المكابرة والرهان على حلف مع الإمارات مثلاً ينقذه اقتصادياً ويعوّمه سياسياً في حال تراجع نفوذ حماته، الروس والإيرانيين.
يطرح ما ورد مجموعة أسئلة ستجيب عنها تطوّرات الأيام المقبلة. من هذه الأسئلة ما يرتبط بحدود العملية العسكرية المسموح تركياً ببلوغها، وبتحدّيات الحفاظ على مكتسباتها، خاصة أن كل اتساع لرقعة سيطرة المعارضين و«فتح الشام» سيفرض عليهم إدارة مساحات عمرانية وكتل بشرية وتحمّل مسؤوليات ليس التعامل معها يسيراً.
ومن هذه الأسئلة أيضاً مقدار العزم الروسي على الردّ العسكري العنيف لتمكين النظام من استعادة ما خسره أو على الأقل وقف انهياراته. وطبقاً لهذا يمكن تقدير ما إذا كانت موسكو حاسمة في حماية مكانة الأسد الحالية، أو غير ممانعة بضربة له تُحذّره من مغبّة البحث عن منافذ خليجية تقرّبه مباشرة إلى ترامب مقابل نقل تدريجي للولاءات وللتموضعات الإقليمية والدولية.
على ان كل ما جرى، لا يحجب كما ذكرنا، الديناميات الداخلية التي تفسّر بدورها جوانب ممّا يجري.
فقسم من سوريا هو منذ العام 2018 محكوم (بفضل الروس والإيرانيين) من نظام متهالك يقوم اقتصاده على الإتجار بالمخدّرات، وفي مقدمها الكبتاغون، وعلى التهريب ومصادرة الأملاك، ولم يبق من مقوّمات سيادته سوى مؤسسة السجن التي يديرها ويخفي فيها عشرات ألوف السوريين مبتزّاً عائلاتهم ومعارفهم بهم وتاركاً إياهم غالباً من دون أخبار ومعلومات عن مفقوديهم.
والمقاتلون المعارضون للنظام، إن من جبهة «فتح الشام» الساعية إلى إذابة تطرفّها الطائفي والإيديولوجي في بوتقة تحالفات مع أطراف سورية مدعومة تركياً، أو من هذه الأطراف ذاتها، هم في أكثريتهم من جيل سوري من المهجّرين أو من أبناء مجتمعات محلية في الشمال والشمال الغربي منهكين وباحثين عن كل ما يُحسّن ظروف عيشهم وتوسيع الحيّز الجغرافي الذي بوِسعهم التحرّك والبحث عن سكن ودخلٍ وموارد فيه. وبعضهم يسعى أيضاً للثأر لضحايا ولخسائر ولاستعادة أرض ومُلك وكبرياء…
في أي حال، تدخل سوريا منذ أيام فصلاً آخر من فصول الصراع فيها وعليها، وهي المنكوبة منذ عقود بواحد من أكثر الأنظمة توحّشاً، والمنكوبة منذ سنوات بميليشيات وباحتلالات وانهيارات وتذرّر، وتبدو الآن، وأكثر من أي وقت مضى، بلداً معلّقاً على توازنات شديدة الهشاشة ومكشوفاً تماماً أمام إرادات الخارج.
وهي بلا شك مقبلة على معاناة إضافية، بمعزل عن المؤدّيات الميدانية مؤقّتة كانت أو متوسطّة الاستدامة للقتال الدائر في شمالها حيث يعيش أكثر من ثلث سكّانها.
أسئلة التصعيد العسكري في سوريا
المصدر
القدس العربي