وأخيراً، جاء الردّ الإسرائيلي المدروس بعناية من جهة تحديد طبيعة الأهداف، والتوقيت وطول المدة، والأسلحة المستخدمة، والتسويغ السياسي والتغطية الإعلامية. فبعدما أقدمت إسرائيل على قتل معظم رموز “محور المقاومة” وقادته، في كلّ من لبنان وغزّة، وحتى من الحرس الثوري الإيراني، برضىً ضمني أو امتعاض ظاهري من الجانب الأميركي، لا يهمّ ما دامت النتيجة هي نفسها. هذا بالإضافة إلى تمكّن إسرائيل من تدمير مستودعات الأسلحة والبنى التحتية التابعة للمحور المذكور، لا سيما في غزة ولبنان. وجدت إسرائيل نفسها مضطرّة للتنسيق مع الجانب الأميركي في عملية الردّ على هجوم رفع العتب الإيراني، قبل نحو شهر على إسرائيل، في أعقاب اغتيال إسماعيل هنيّة في طهران، وحسن نصر الله في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، فضلاً عن اغتيال مسؤولين في الحرس الثوري الإيراني في الضاحية الجنوبية ودمشق، بموجب قواعد العمل المتّفق عليها بين إسرائيل والولايات المتحدة منذ عقود، والتي تنصّ على صلاحيات إسرائيل في التدخّل في الأمور والمتغيّرات التي تخصّ دول “الطوق”، بينما تبقى التدخّلات في أوضاع الدول الإقليمية الأخرى، خصوصاً التي لديها أبعاد أو علاقات مؤثّرة إقليمياً ودولياً، من اختصاص أميركا، مع أخذ الهواجس الإسرائيلية الأمنية بعين الاعتبار. وهذا ما يسري على إيران التي تمتلك قوةً عسكريةً كبيرة قياساً إلى الدول الأخرى في الإقليم، ولديها طموحات توسّعية واضحة تحت مختلف التسميات، وبمختلف الطرق والأساليب، بما في ذلك إرسال قواتها في هيئة خبراء أو مستشارين إلى الأماكن الساخنة ليقوموا بأنفسهم بمهام الاستطلاع والتوجيه والقيادة، وحتى الدخول في البازارات والمفاوضات. وبناء على ذلك، كان التأكيد الأميركي للجانب الإسرائيلي بضرورة التريّث والتنسيق المشترك، حتى تكون الولايات المتحدة مستعدّةً مع حليفاتها لأيّ طارئ من الناحية العسكرية، إلى جانب شرعنة الهجوم عبر إدراجه في خانة حقّ الدفاع عن النفس، ومن ثمّ التغطية والتسويق الإعلاميَّين للحدث، وكأنّه كان من الشرّ الذي لا بدّ من الإقدام عليه لتدارك الأعظم.
يبدو أن إيران فهمت الرسالة كما ينبغي، وآثرت التهدئة في خطوة تفاهمية مع الجانب الأميركي، الذي ربّما وعدها بأدوار إقليمية
كان الاعتقاد السائد أن الردّ الإسرائيلي على الهجوم الإيراني المشار إليه (بنحو 180 صاروخاً باليستياً)، ربما تُخلِّيَ عنه بعد الاختراقات الأمنية الكبرى لأجهزة اتصالات حزب الله، وعلى أثر سلسلة الاغتيالات المتلاحقة لأبرز القادة السياسيين والميدانيين لحزب الله، وفي مقدّمتهم الأمين العام للحزب حسن نصر الله. ولكن يبدو أن إسرائيل كانت مصمّمةً على الردّ لاستعادة هيبتها، التي تعرّضت لهزة كُبرى بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، كما كان النظام الإيراني مضطرّاً لتوجيه صواريخه ومُسيَّراته نحو إسرائيل لإقناع حاضنته بقدرة على المواجهة والتزام الشعارات التي يرفعها منذ هيمنته على السلطة في إيران عام 1979.
والسؤال: هل سيردّ النظام الإيراني على إسرائيل لإعطاء دفعة حيوية لمزاعمه وشعاراته، وهو النظام الذي لم يبع شعبه بانتماءاته المجتمعية كلّها سوى شعارات “الممانعة والمقاومة”؟ أم أنه سيكتفي بالتهديد بالردّ، وسيتلزم في واقع الأمر مبدأ عدم الردّ الذي كان نصر الله يعتبره صيغةً من الردّ؟ … المناخ الإقليمي والدولي لا يسمح بمزيد من التصعيد نتيجة الحروب والصراعات المفتوحة في عدد من دول المنطقة (اليمن وسورية والسودان وليبيا)، ونتيجة الأجواء المتوتّرة المشحونة في دول أخرى، وهي الأجواء التي قد تتحوّل في أيّ لحظة مواجهاتٍ داميةً أو حروباً مفتوحةً هي الأخرى، ويشار هنا إلى العراق ولبنان على وجه التخصيص، وربّما دول أخرى على وجه الإجمال.
اللافت في الأمر الصراع المسلّح راهناً بين إسرائيل و”محور المقاومة”، الذي كان بعد أعوام من التخادم المشترك بينهم بهدف الحفاظ على السلطة الأسدية في سورية. وقد استُخدِمت سائر الشعارات بهدف شرعنة التدخّل في سورية من جانب مليشيات حزب الله، ومليشيات الحشد الشعبي العراقي، والمليشيات الوافدة الأخرى بقيادة الحرس الثوري الإيراني. فعلى ما يبدو كانت إسرائيل متّفقة (أو متفاهمة) مع “محور المقاومة والممانعة” بصورة مباشرة أو عبر طرف ثالث حول أهمّية الإبقاء على السلطة الأسدية في سورية، ومن أبرز علائم التخادم المشار إليه، الصمت المشترك تجاه الإرهابيين المتشدّدين. بل التفاهم معهم، ونقلهم من مكان إلى آخر، ليقوموا ببعض الأعمال الإجرامية القذرة التي كانت تستخدم لترهيب الناس، ودفعهم نحو الهجرة أو الرحيل، فتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الإرهابي (الكوكتيل الاستخباراتي) بدأ فعالياته بعدما تمكّن قادته من الهروب من السجون في العراق، وفق مزاعم نوري المالكي، وبعد قيام السلطة الأسدية بإطلاق سراح كثيرين من المعتقلين الإسلامويين المتشدّدين، الذين كانوا في حالة تعاون مع السلطة عينها، والنظام الإيراني، في الفترة التي اعقبت سقوط نظام حكم صدّام حسين في العراق. فقد تعاون الطرفان لتفجير المجتمع العراقي عبر اللعب بالخلافات المذهبية بغية وضع العالم أمام بديلَين فاسدَين؛ الإرهاب أوالاستبداد. أو الإرهاب المنضبط والإرهاب المنفلت، وذلك وفق توصيفات أو تصنيفات الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
ومع إعلان إسرائيل انتهاء هجومها على إيران، بادرت الولايات المتحدة بالطلب من الجانب الإيراني عدم الردّ منعاً لمزيد من التصعيد. ومن الواضح، بناءً على الاستنتاجات والتصريحات، أن الاتصالات قد استمرّت مع الجانب الإيراني قبل الإعلان عن الضربات الإسرائيلية، ووضعت طهران في صورة ما سيحصل، وطبيعة الأهداف التي ستُقصف، وأُفهمت بضرورة التقليل من شأن الردّ الإسرائيلي وعدم الردّ أو التلويح به، وذلك بهدف ضبط الأمور، والعودة إلى قواعد الاشتباك المعروفة، فأيّ تصعيد غير محسوب في هذه الظروف قد يدفع بالولايات المتحدة نفسها إلى التدخّل.
ويبدو أن الجانب الإيراني قد فهم الرسالة كما ينبغي، وآثر التهدئة، في خطوة تفاهمية مع الجانب الأميركي، الذي ربّما وعد الجانب الإيراني بأدوار إقليمية، وربّما بمخرجات قانونية، أو شبه قانونية، للمشكلات القائمة بين النظام الإيراني من جهة، والغرب على وجه العموم، والولايات المتحدة تحديداً.
فائض القوة الإسرائيلية، في مقابل تشرذم عربي، وأزمات تتسبّب في شبه “انتحار جماعي” من حركات دينية متطرّفة، تجعل نهوضنا مستحيلاً
في المقابل، يستوقفنا في هذا الموضوع استمرار إسرائيل في عدوانها على المدنيين في قطاع غزّة ولبنان، وصمت بشّار الأسد المطبق، إلى جانب المحاولات الإيرانية الحثيثة للتنصّل من أيّ مسؤولية يمكن أن تترتّب عليها استحقاقات مكلفة. والسؤال في هذا السياق: ما هو الهدف الإسرائيلي من ذلك كلّه؟ هل للموضوع علاقة بمحاولة نتنياهو الابتعاد عن المحاسبة التي تنتظره في حال خروجه من موقع رئيس مجلس الوزراء؟ … لا نعتقد أن هذه النقطة تفسّر ما حصل ويحصل. فمهما يكن، لا يمكن لإسرائيل أن تستمرّ في حرب مدمّرة على المدنيين في غزّة أكثر من عام، وكذلك الحال مع الحرب على جنوب لبنان، لا سيّما بعدما تمكّن الجيش الإسرائيلي من اغتيال أو تحييد غالبية القيادات العسكرية الميدانية، والقيادات السياسية، وعلى أعلى المستويات الخاصّة بكلٍّ من حركة حماس وحزب الله، وإنما للموضوع علاقة بإحداث تحوّلات كُبرى في المنطقة لصالح إسرائيل، تكون مقدّمةً لتجاوز الالتزامات التي تنصّ عليها بعض القرارات الدولية، مثل فكرة “حلّ الدولتَين”، والإقرار “بسوريّة مرتفعات الجولان”، ففائض القوة الذي تمتلكه إسرائيل بمساعدة حلفائها في الغرب، في مقابل الضعف والتشرذم العربيَّين، إلى جانب الأزمات المفتوحة التي تعانيها عددٌ من الدول العربية، وهي الأزمات التي تتسبّب في حالة من التدمير الذاتي أشبه بـ”الانتحار الجماعي” الذي تمارسه بعض الحركات الدينية المتطرّفة… ذلك كلّه يجعل من معادلة إمكانية النهوض العربي (ضمن الظروف الحالية) مستحيلةَ الحدوث، الأمر الذي من شأنه أن يؤدّي إلى تجاوز الالتزامات التي كانت، والمطالبة بقواعدَ جديدةٍ تتناسب مع حسابات المنتصر المهيمن، خاصّة أن جملةً من الدول العربية ارتأت أن تبرم مع إسرائيل اتفاقيات تطبيع ثنائية، وقطعت مع فكرة مبادرة عربية شاملة تلتزم بها الدول العربية كافّة، لأنها ترى فيها نقطةَ قوتها، كما نرى في واقع دول الاتحاد الأوروبي اليوم. هذا في حين أن الصفقات الثنائية باتت السمةَ الغالبةَ التي تميّز علاقات الدول العربية مع الدول الأخرى، وفي المقدّمة منها إسرائيل. وتتفرّع من هذا السؤال المحوري جملةُ أسئلةٍ فرعيّةٍ تُطرَح عن النتيجة المترتّبة على هذا التوجّه؛ هل نحن أمام موجة تهجير اعتباطية جديدة؟ أم أن ما يجري إنّما هو ضمن إطار عملية البحث عن “الوطن البديل”، سواء في صحراء سيناء أم في الضفة الثانية من نهر الأردن، لتهدئة الهواجس الإسرائيلية تجاه عدم التوازن السكّاني الذي تتلمّس آثاره اليوم مع الفلسطينيين؟ … هي هواجس ستتعاظم في مقبل الأيام، وستشكّل، مع الوقت، المزيد من الضغط على صانع القرار الإسرائيلي الذي لم يتمكّن، لأسباب كثيرة، من تجاوز واقع التحسّب والحذر، ولم يتمكّن من فتح أقنية التواصل مع المجتمع العربي الشعبي، وليس الرسمي الذي يجد نفسه مضطراً لأخذ مزاج الأخير بعين الاعتبار.
الأزمة المتفجّرة المتصاعدة في كلّ من غزّة ولبنان، وربّما مستقبلاً في مناطق أخرى، بل على مستوى المنطقة كلّها، لن تُعالَج بالشعارات التضليلية، ولا بالتخريجات الخرافية، وإنّما تستوجب تحرّكاً موزوناً فاعلاً مؤثّراً يقطع الطريق على محاولات استغلال العواطف، والمتاجرة بها لصالح مشاريع إقليمية توسّعية، الغرض منها هو الهيمنة (لا ضمان حقوق الشعوب عبر مشاريع تكون فعلاً لوجه الله) لمصلحة بعض البشر الذين يتاجرون باسم الله.