لم يكن حضور الرجل أمامنا، نحن طلبة الدراسات النقدية في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، مستغرباً، إذ إن معظمنا كان هارباً من الجامعة، بسبب انغلاق كلياتها وأقسامها على نمط تعليمي تقليدي، الأمر الذي يجعل الطلبة الراغبين بدراسة الفن والآداب، يتحينون الفرصة للحصول على مقعد في المعهد.
لكن العلاقة مع كلية الآداب وقسم الفلسفة فيها، في ذلك الوقت، أي نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات، كانت مختلفة عن السياق، إذ احتوت نخبة من الأساتذة، لم يكتفوا بتخريج أعداد من الدارسين فقط، بل جعلوا مكان دراسة الفلسفة في الجامعة منصة فكرية، تشد المتابعين إليها، وتدفعهم أكثر فأكثر نحو سجالات تأتلف بين المتحاورين، وأيضاً، إلى اللقاء مع نخبة من المفكرين العرب الذين كانوا يأتون إلى دمشق، للمشاركة في أسبوع ثقافي فلسفي، دأب القسم على إقامته.
هناك، تعرف كثر منا على د.يوسف سلامة، ولم تكن حالته الشخصية المتعلقة بفقدان البصر، هي ما يلفت الانتباه، بل طاقته العالية في التعاطي مع الآخرين، وبما يفوق المبصرين.
درسُ علم الجمال في المعهد، لم يكن مجرد حصة، بل كان استغراقاً للحاضر فيه، فهو في صلب الاختصاص، لكنه في الوقت ذاته مدخلٌ للخروج حتى على الآلية التعليمية، رغم انفتاحها على المختلف غير النمطي والمكرور. ولهذا تحول الدرس من سطور يمليها الأستاذ من ذاكرته، إلى نقاش حول النماذج التي تصلح للتدليل على الفكرة الجمالية، أي الخروج من حيز المجرّد الفلسفي إلى التجلي في المنتج الفني.
سيقودنا نقاش إلى مراجعة الأفكار الفلسفية الجمالية في رباعيات الخيام، وسآتي بنسخة أصلية من ترجمة الشاعر أحمد رامي لرباعيات الخيام، وسأتركها لدى يوسف سلامة، لتبقى عنده في مكتبته الشخصية، وبقيت لدي في المقابل أفكار هائلة، سأحتاجها دائماً في تحري مكامن الجمال، في النصوص والمسرحيات، والموسيقى، والأغاني، والأفلام.
ما أكتبه الآن، سيجد القارئ ما يشبهه لدى عشرات من تلامذة الرجل الذي غادر الحياة البارحة، خصوصاً أن العلاقة التي تنشأ في ردهات الجامعات والمعاهد لا يمكن أن تستمر لدى الخريجين، من دون أن يحوز الأساتذة طاقة التواصل والترحيب والاستمرار أيضاً، خارج الفضاء الأكاديمي. وهذا لن يحدث في بيئة مضطربة، مليئة بالسلوكيات الرديئة، التي تتسبب بها نوابض الفساد المجتمعي والمؤسساتي، ولو لم يكن لدى النخبة، ممن صنعوا ذاكرة قسم الفلسفة، نظراتهم المختلفة عن مؤدى العملية التعليمية. فهؤلاء جاء معظمهم من الماركسية كفضاء جدلي، وكانوا على اتصال مع السياسة والثقافة، وعلى أهبة اللقاء إلى أي حراك يهدف إلى استعادة الديموقراطية في المجتمع السوري. لهذا لن يكون مستغرباً أن تجد غالبيتهم، لا سيما يوسف سلامة، مُشارِكة في المنتديات التي أشعلت ربيع دمشق الموؤود في بداية الألفية الجديدة. كما أن القمع الرهيب الذي تعرض له السياسيون نتيجة جيشان الحراك المجتمعي، لم يُثنِ المشتغلين بالفكر عن المتابعة، وما إن أزِفت بوادر الربيع العربي حتى وجدتهم يساهمون في النقاشات الحارة على هامش التظاهرات السلمية.
كنت ألتقي يوسف سلامة في أوقات عادية، كالأنشطة الثقافية هنا وهناك، لكن اللقاء الذي سيجمعنا في إحدى بلدات ريف دمشق بدعوة من “حركة معاً” (تجمع شبابي ديموقراطي وعلماني) سيجعلنا نعيد التأكيد على انتماء كان سرياً وبات علنياً، يهدف إلى التغيير. جاء يوسف آنذاك بصحبة د.أحمد برقاوي، والناشط والكاتب المعتقل علي الشهابي. ورغم جدية النقاش وسخونته، لا سيما أنه انطلق من تداول الأفكار المطروحة على سكة التغيير المأمول، إلا أنه انتهى رائقاً مع مجموعة شبابية لم تر الثورة إلا بوابة للفرح والآمال بالمستقبل الأفضل!
ضربة على الرأس، تفقد الإنسان وعيه للحظات، فيصحو ليجد نفسه وقد فقَد كل شيء، وصار في مكان مختلف، بعيداً جداً من وطنه، ومن موئل كل ما تشكل فيه.
ستتكرر لحظة الصحو كلما التقيتُ بواحد من أولئك الذين عجنوا دماغي بأصابعهم المُشكّلة من الأفكار. وحين سألتقي بيوسف سلامة في اسطنبول، سأعاود الصحو مرات ومرات، فهو لا يضنّ عليك بالمشاعر والإحاطة، وسيجعلك دائماً في انتظار خلاصة ذكية مختلفة، تبتعد عن السائد في وعيك، لكنها لا تعاديه، وكلما تمكن من سحبك إلى ضفته، ستشعر أن الأفكار ليست أدوات حرب، كما في الطريقة المعتادة في خطابات المتخاصمين، بل هي سلم حار، يقود نحو الأعلى في تحري الإنسان لإنسانيته.
سأعمل في وقت لاحق مع الرجل، في إنجاز بضعة بحوث لمجلة “قلمون” التي ترأس تحريرها حتى ساعة رحيله، وسأعاود التعلم منه، كيف يمكن لي أن أتلقى ملاحظات المُحكّمين، من دون أن يتملكني الإحساس بالغضب من سوء فهم هنا، أو قسوة في التعبير هناك، وفوق هذا كله سيتجدد لدي الشعور بالفيض الإنساني، وأنا أتابع معه بعض البحوث، التي كان يصر على أصحابها أن يعدّلوها لتصبح قابلة للنشر، وذلك في سبيل ألا يضيع ألقها بسبب الركاكة أو العجز المنهجي.
صادمٌ هذا الرحيل، خصوصاً أن يوسف كان، حتى فترة قريبة جداً، على رأس عمله، يتابع تحضير العدد الخاص بالآثار السورية، وما تعرضت له خلال السنوات الأخيرة من دمار ونهب وسلب، من قبل النظام والفصائل المسلحة على حد سواء.
ويا لها من كناية رهيبة، أن يمضي المرء وهو يقرأ ويشاهد ما تركه السابقون من تفاصيلهم، وبين غمضة وأخرى، يصبح جزءاً من المشهد الذي كان يعاينه.
عذراً التعليقات مغلقة