على بعد أمتار من مركز جورج بومبيدو، وسط باريس، تستطيع تناول البيتزا في مطعم لا يعمل فيه أشخاص كالمعتاد. فأنت تختار طلبك وتدفع الثمن في الماكينة المخصصة لذلك، ثم يقوم روبوت “تراه أمامك” بحمل المطلوب من مكان ما ووضعه في الفرن، وعندما ينتهي الطهي يأتي دور روبوت آخر ليقطّع البيتزا ويسلّمها من نافذة لتسليم الطلبات بعد أن يكون أصحابها قد شاهدوا أداء الروبوتات الدقيق، وربما استمتع البعض منهم بذلك، وربما رأى فيه البعض الآخر تطوراً مرغوباً، فالروبوتات على سبيل المثال لن تكون مصابة بأمراض قد تنقلها إلى الزبائن بسبب تهاونها في تطبيق التعليمات الصحية.
محطة الشاتليه الضخمة للمترو وقطارات الضواحي غير بعيدة عن مركز بومبيدو، ومنها يمكن أن تستقل المترو رقم 1 أو المترو رقم 14، وقد يستمتع البعض بالركوب في مقدمة المترو الذي لا يقوده سائق. تستطيع استغلال الوقت الضائع في المترو بفتح أحد حساباتك لدى مؤسسات عامة، وملء المعلومات المطلوبة دورياً، ثم الضغط في النهاية على مربع ينص على أنك لست روبوت، وكأن الروبوت القادر على التعامل مع الحساب وملء المعلومات منزّه عن الكذب بحيث أن ضميره سيردعه عن التعهّد الأخير.
في إضرابات عمّال النقل قبل شهور، وقبل أربع سنوات، بقي الخطان 1 و14 في الخدمة، وخلال سنوات قليلة قد لا يبقى من مضمون فعّال ومؤثّر لنقابات عمّال النقل، خاصة أن تعميم التجربة على القطارات بين المدن والبلدان متاح تقنياً، وكذلك هو حال الطائرات التي لن يصعب برمجتها وتسييرها بالذكاء الصناعي، والاستغناء عن المضيفات بالخدمة الذاتية للدرجة الاقتصادية وبروبوتات لدرجة VIP. أسهل من ذلك بالطبع الجزم بأن ماكينة الخدمة الذاتية ستغزو المحال التجارية، وقد بدأت بذلك فعلاً، لتقضي على مهنة البائع أو الكاشيير، ولتكتفي محلات السوبرماركت وما يماثلها بموظف أمن قد يُستعاض عنه قريباً بكاميرات مراقبة أذكى من الحالية مربوطة بنظام أمني للطوارئ.
ما سبق يندرج ضمن الواقعي والراهن، لا ضمن السيناريوهات القيامية التي تتنبأ بأخطار كبرى على البشرية جمعاء نتيجة اجتماع الذكاء الصناعي ومختلف أنواع الروبوتات التي قد يكتسب بعضها من الذكاء ما يفوق الذكاء الطبيعي، وما يمنحه “وهذا هو الأهم” قدرة على المبادرة ومخالفة البرمجيات التي كانت طوع البشر. وإذا تجاوزنا الرعب الذي تزرعه في النفوس فمن المؤسف القول أن تلك السيناريوهات أكثر عدالة مما حدث ويحدث في الواقع، ومما يُنتَظر حدوثه، ومن الخطأ النظر إلى المتغيّرات على أنها تخصّ المجتمعات المتطورة، بينما ستبقى المجتمعات المتخلفة تكنولوجياً في منأى عنها طالما لم يضجر من الحياة روبوت ما أو برنامج شديد الذكاء ويقرر الضغط على جميع الأزرار النووية.
كانت ضرورات الإغلاق التي أملتها جائحة كورونا مناسبة لتجريب العمل عن بعد على نطاق واسع، ونتائج التجربة انتهت إلى أن ما بعد كورونا ليس كما قبلها. فالعمل عن بعد له العديد من المزايا “الاقتصادية”، إذ يوفّر من النفقات التي تستهلكها المكاتب، ويوفّر من العمالة “التكميلية” في هذه المكاتب، فضلاً عن توفيرٍ في الحاجة إلى وسائط النقل، ما يجعله صديقاً للبيئة. من أبواب التوفير أيضاً التقليل إلى أقصى حد من المعاملات المكتبية الورقية، وهو ما يستتبع التقليل من المراسلات التقليدية والاعتماد على الإيميل. في فرنسا مثلاً، وخلال أقل من عقد، تم الاكتفاء بتوزيع البريد مرة في اليوم بدل مرتين يومياً باستثناء الأحد، ومؤخراً لم يعد هناك توزيع له يوم السبت، مع ما يستتبعه هذا من إلغاء سلسلة وظائف متعلقة به.
هناك عدد ضخم من الأمثلة على الآثار التي باتت ملموسة ومرئية للتطور في ميدان الآلات والبرمجيات فائقة الذكاء، وبالطبع يجب التنويه بالمكاسب الهامة في السنوات الأخيرة، منها مثلاً الاستفادة الطبية من الذكاء الصناعي. لكن ما هو واضح على الصعيد الكلي أن الرأسمال المهيمن لديه من الجشع ما يكفي لاستثمار فائض الذكاء الصناعي والآلات الذكية لتحلّ كلما أمكن بدلاً من العمالة البشرية، بما فيها لاحقاً العمالة المصنَّفة رخيصة حتى الآن. على سبيل المثال في قطاع التكنولوجيا وحده، ويبقى المعلن عنه أقل من الواقع، ستخفّض بريتش تيليكوم القوة العاملة لديها بمقدار 55 ألف وظيفة حتى نهاية هذا العقد، أما شركة فيليبس هيلث كير فستلغي هذه السنة 6 آلاف وظيفة، وتخطط شركة ساب الألمانية للتخلي عن 3 آلاف وظيفة هذا العام، وستلغي تيليكوم إيطاليا ألفي وظيفة، بينما ستلغي فودافون 11 ألف وظيفة خلال السنوات الثلاث المقبلة.. إلخ.
والحديث عن جشع الرأسمال لا يندرج ضمن هجاء نمط الإنتاج الذي لم يعد أصلاً في الإطار التقليدي، ومن التغيرات التي لا يُستبعد أن تطرأ عليه تلك التي قد تنال مما كان تلازماً لصيقاً بين الاقتصاد الحر والليبرالية السياسية. ربما يكون من إرهاصات التغيير ما شهدناه في السنوات الأخيرة لجهة انحسار اليمين واليسار التقليديين في الغرب وصعود اليمين الشعبوي، يليه بمراحل صعود اليسار الشعبوي. لقد شهدنا في الفترة نفسها عمليات اقتراع سلبية في ديموقراطيات كبرى، فحواها اختيار من يُظنّ أنه الأقل سوءاً بسبب غياب مقترحات ومشاريع “بنّاءة” وقابلة للتحقيق. نضع في إطار الاقتراع السلبي معاداة الأجانب والمهاجرين، إذ تُرمى عليهم مسؤولية التدهور الاقتصادي والبطالة، وهو خطاب يكاد يشبه الدعوة إلى إبادة جزء من السكان لأن كثرتهم ترهق الاقتصاد، وذلك بدل التفكير في حلول اقتصادية حقيقية تعود بالنفع على العموم.
من المرجح أن تتفاقم الخطابات العنصرية مع مزيد من التراجع في الرفاه الغربي وتفاقم البطالة، والرأسمال المسؤول عن تفاقمها والمتخلّي عن دوره الاجتماعي سيشجّع على توجيه أصابع الاتهام في هذه الوجهة. ومن شبه المؤكد ألا يتوقف الأمر عند العداء للأجانب وأبناء المهاجرين في الغرب، بل ستؤثر النزعة الانكفائية على تعاطي الغرب مع البلدان الفقيرة. وإذا كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد حذّر الفرنسيين من انقضاء زمن الوفرة فهذه رسالة تتضمن أيضاً عدم قدرة الغرب على تقديم مساعدات، منفردة أو عبر المنظمات الدولية، على النحو الذي كان يحصل من قبل، وكان الرئيس الأمريكي السابق ترامب صريحاً في رغبته الانسحاب من كافة المنظمات التي تدفع لها بلاده من دون الحصول على عائد منها، كما كان يدعو بوضوح إلى الانسحاب العسكري من المناطق التي لا تدرّ ربحاً مباشراً.
تذهب التكهنات المتشائمة إلى أن ما يحدث لن يُقابَل برأي عام يوقفه، أو يحدّ من آثاره السلبية، ويردّ البعض ذلك إلى طغيان الفردية التي تمنع التكافل في كل بلد أو على صعيد عالمي. لكن المخيف، إذا استعرنا ألطف ما في سيناريوهات الرعب، أنه سيكون من السهل استخدام البرمجيات فائقة الذكاء لتكوين رأي عام مناسب للقلة المتحكّمة بالاقتصاد والسياسة، وإغراق وسائل التواصل به؛ سيكون البشر أقلية مستضعفة إلى جانب أكثرية الكائنات الافتراضية الأذكى ودائمة النشاط. حتى الإعلام التقليدي قد لا يتأخر مالكوه في استثمار البرمجيات الجديدة “للتوفير ولسهولة تطويعها” بدلاً من المحررين والكتّاب، فلا يكون قابلاً للتصديق بعد سنوات القول: هذا المقال لم يكتبه الذكاء الصناعي.
عذراً التعليقات مغلقة