يُحكى أن شيبوباً قال لعنترة بن شداد العبسي:” الحريةُ تؤخذُ من الأسياد، والظلم لا يكون إلا في العبيد”.
“مما هو مُحرّر وممن”؟! سؤال استنكاري، غالباً ما سيسمعه، كلُّ من يطلق اسم “المحرر” على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، في شمال غربي سوريا، سواء تلك الواقعة تحت سلطة هيئة تحرير الشام، أو ما يخضعُ من مناطق لفصائل الجيش الوطني.
ندركُ جيداً أسباب رفضِ واستنكارِ التسمية من قبل الموالين لنظام الأسد، لكن ما بالُ مستنكرين ينتمون إلى ضفة المناهضين لحكم الأسد؟
لنعد للوراء قليلاً باحثين عن أصل التسمية، علّنا ندركُ ما يبرر حالة الاستنكار.
حين أطلقت حاضنةُ الثورة تسمية “المحرر” على شمال غربي سوريا، كانت تعني خروج هذه الجغرافيا، عن دائرة الاستبداد وممارساته القمعية، ففصائل الثورة (المعارضة لاحقاً)، لم تطرد قواتٍ أجنبيةٍ غازية. بل جيشاً “سورياً” تخلى عن الشعب/الضحية، لصالح الحاكم/الجلاد.
باختصار وزهداً بكل استطراد: “المحرر هو الأراضي السورية التي يعيش فيها سوريون نالوا حريّتهم التي طالبوا بها وثاروا من أجلها”، فأي حرية أراد هؤلاء السوريون وهل يحيونها في محررهم؟
ما كانت ممارسة الشعائر الدينية قبل الثورة، ممنوعة بالحد الذي يستوجب إعلان ثورة، ليست غايتي تحسينَ صورة نظام عصيٍّ على أي تجميل، إنما أبتغي محاولة تحليل المشهد بموضوعية وبعيداً عن فُجر الخصومة.
أراد متظاهرو آذار 2011، حرية الرأي والتعبير والتفكير، حرية اختيار السلطات دون تزوير وإكراه، حرية الإعلام مرئياً ومقروءاً ومسموعاً
كان الجميع يصلي ويصوم ويحج ويؤدي زكاته، كان الأذانُ وقرع الأجراس جهراً، ومع انتهاء التسعينات انتهى تحفظ النظام على اللحى والخمار وإقامة المعاهد الدينية.
لم تكن الحرية التي طلبها الثوار، حرية التدين اعتقاداً أو ممارسةً، ولا تحرراً من محتل خارجي، بل سأعرّفها كما اعتقدها السوريون، حتى لو لم يطابق اعتقادُهم هذا، أدبيات السياسة وجذور القواميس.
أراد متظاهرو آذار 2011، حرية الرأي والتعبير والتفكير، حرية اختيار السلطات دون تزوير وإكراه، حرية الإعلام مرئياً ومقروءاً ومسموعاً، حرية التظاهر والاجتماع والاعتصام في سبيل مطالب يقرها دستور تضعه إرادة شعبية حرة.
زوال الإخفاء القسري، نزاهة واستقلال السلطة القضائية، عودة الجيش إلى الثكنات، إغلاق مسالخ تدمر وصيدنايا وسبعة عشر فرعاً أذاقت السوريين كل أشكال التعذيب والإذلال والموت.
فما نسبة المنجز من هذه الأحلام في المحرر؟ وهل سيُرجم من يتساءلُ عن ممارساتٍ كانت مباحةً في عصر ظلمات الأسد، لتغدو تابوهات في محرر اليوم؟
ما صحة الزعم القائل، بأنا حين عجزنا عن إطفاء جحيم تدمر وهدم مسلخ صيدنايا، استُنسخت لنا أندادها، مؤكدين على أنفسنا صحة ما قاله الكواكبي في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد: “المستبد يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم”.
يتوجب علينا أن نكون أكثر جرأةً في حساب المغانم والمغارم، باحثين عن معارض الرسامين، رافعين صوت فيروز في سياراتنا صباحاً، متخيلين متسائلين: “ألا تثورُ ثائرتنا لو أنّ شالَ محجبةٍ ينحسر قليلاً عن ضفائر مهسا أميني في بعض بلدات المحرر”؟
كان التقديس سابقاً محصوراً في شخص رئيس النظام ورموز سلطاته الأمنية والبعثية، حيث بإمكانك انتقاد محافظ أو قائد كتيبة أو رئيس مخفر، ومرةً أخرى يفرض علينا ما قدمناه من ثمن غالٍ، أن نتساءل بجرأة عن مدى جودة البضاعة التي حزناها.
يظنُّ البعضُ أن الفقهاءَ وسّعوا هامش الحرية، حين ألبسوها في تعريفهم لها، معنى واسعاً، فقالوا إنها ضد الرقّ، ولا أدري أين السعة في تعريف يحصر الحرية في حالة غدت من البدهيات.
لو أرادَ أحد متحرري المحرر، المشاركة في أمسية شعرية أو ندوة فكرية، فعليه ألا يقنع بسكين جزار تزيل من نصوصه الزوائد التي قد تراكم الشحوم في شرايين السلطات
لكني عندما ألاحظ دهشة أولي الأمر، حين نطلب حريتنا في المحرر، يتبادر لذهني، أنّ هذه الدهشة إنما تتكئُ على التعريف الذي يعتبر الإنسان حرّاً، طالما هو عتيق الرقبة غير مملوك لسواه!!
لو أرادَ أحد متحرري المحرر، المشاركة في أمسية شعرية أو ندوة فكرية، فعليه ألا يقنع بسكين جزار تزيل من نصوصه الزوائد التي قد تراكم الشحوم في شرايين السلطات، بل من الأجدى له البحثُ عن مبضعِ جرّاحٍ دقيق يطرح كل كلمة تحتمل أكثر من وجه.
تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين، حكمة تم العبث بإعداداتها، لتصبح: “تنتهي حريتك حيث يبدأ تصوّرُ الآخرين”.
يقولُ الإمام القشيري (1073 ميلادي): “الذي أشار إليه القومُ من الحرية هو أن لا يكون العبد بقلبه تحت رِق شَيْء من المخلوقات، لا من أعراض الدنيا ولا من أعراض الآخرة، فيكون فردَ الفرد، لَمْ يَستَرِقَّه عاجلُ دنيا، ولا حاصلُ هوى، ولا آجلُ مُنى، ولا سؤالٌ، ولا قَصْدٌ، ولا أَرَبٌ، ولا حَظٌّ”.
أوليس لنا حَظٌّ حتى بحرية أشار إليها، قبل تسعة قرون، قومُ القشيري.
عذراً التعليقات مغلقة