لو أتى التصعيد الأخير، على طرفي الحدود بين سوريا وتركيا، قبل شيوع الحديث عن تقارب بين الأسد وأنقرة لفُهم بأنه في إطار الشد والجذب حول العملية العسكرية التركية التي يختفي الحديث عنها ليعاود الظهور. أما مجيء التصعيد بعد التصريحات التركية، التي أثارت غضب السوريين المعارضين، فقد يُفهم كاستئناف للمفاوضات السرية بين الطرفين، وربما كتوريط لقسد بهجماتها عبر الحدود لتكون ذريعة للتركي وللأسد الذي يتحفز للتدخل من أجل “ضبط” الحدود. لا يُستبعد أيضاً أن يكون هناك ضمن سلطة الأسد من يريد عرقلة التقارب، في حال كان لطهران تحفظات عليه.
سيكون واحداً من المؤشرات حول هذا التصعيد مصير زيارة أوزغور بورصالي إلى دمشق، وقد أعلن أنها ستكون في الأيام القليلة المقبلة. بورصالي هو رئيس حزب الوطن “المعارض”، لكنه راح يتقارب مؤخراً مع أردوغان، إلا أن زيارة الأول لا تمهد لزيارة الثاني إلى دمشق، أو لاستقبال بشار الأسد في أنقرة. الطريق بين أردوغان وبشار غير سالكة، رغم تراكم الإشارات الإيجابية المُرسَلة من أنقرة في الأسابيع الأخيرة، ورغم حسن استقبالها من الأسد.
ما كشفته يوم الأربعاء صحيفة “Türkiye Gazetesi”، المقرَّبة من حزب العدالة الحاكم، يضع التقارب التركي-الأسدي في إطاره الممكن، مثلما يوضّح أن ما هو ممكن مفخَّخ بما يصعب أو يستحيل الاتفاق عليه. لذا سيكون من الشطط اعتبار تنفيذ كافة المطالب المتبادلة ممكناً، وسيكون من عدم الواقعية تجاهل ما يمكن للجانبين الاتفاق عليه، وهو ليس بالقليل.
بموجب الصحيفة، يطالب الأسد بإدلب، وأول ما يجب الانتباه إليه تخلي الأسد عن موقعه ” السيادي” الذي يفترض به المطالبة بكافة الأراضي التي تسيطر عليها تركيا حالياً. باقتصاره على إدلب، هو يتجاهل عفرين وأعزاز والباب والشريط بين تل أبيض ورأس العين، مراعياً بذلك الهواجس الأمنية التركية المتعلقة بالأكراد. أبعد من ذلك، المطالبة بإدلب تأتي في إطار الحديث عن صفقة يتوسع بموجبها النطاق الجغرافي لاتفاقية أضنة، ونذكّر بأن أنقرة تتحدث عن شريط بعمق ثلاثين كيلومتراً بدل الكيلومترات الخمسة المنصوص عليها في الاتفاقية المذكورة.
من الصعب بالطبع تلبية مطلب أنقرة بهذا العمق على امتداد نحو 900 كيلومتر، ولن يقلّ الاتفاق إهانة لشريكها إذا قبلت بعمق 20 كيلومتراً بدل الثلاثين. الأهم أن انسحابها من إدلب شبه مستحيل حالياً، فالتخلّي عن إدلب تحكمه اعتبارات متشابكة ومعقدة، منها وضع هيئة تحرير الشام “النصرة سابقاً”، ومنها مصير العدد الضخم من اللاجئين، ما يستبعد مخاطرة تسليمها من دون تغير دراماتيكي أوسع بكثير من المفاوضات بين الجانبين.
يطلب الأسد، وربما من ورائه موسكو وطهران، ما لا يمكن الحصول عليه. ولكي لا نتسرع، هذا لا يهدد الصفقة برمتها، ومن المعتاد في المفاوضات وضع بند يصعب الاتفاق عليه دعماً للحصول على مطالب أخرى. في هذه الحالة، سنرى مطالب الأسد الأخرى سهلة التحقيق، وليس في أيٍّ منها وقْعُ أو صدمةُ انسحاب تركي من إدلب. من ذلك منح الأسد السيطرة التامة على معبرَيْ كسب وباب الهوى، والسيطرة على الطريق التجاري الواصل بين الثاني ودمشق.
مع إضافة مطلب السيطرة على الطريق الذي يصل شرق سوريا بطريق حلب-اللاذقية الدولي، يظهر هاجس الأسد الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ومن أولوياته الخروج منها. هنا يطالب أنقرة بأن تكون طوق نجاة من أزمته، خاصة بعد عجز لبنان عن انتشاله، إذا لم نقلْ بعدما جرّت اليد اللبنانية الممدودة لبنان كله إلى جوار الغريق الأول. لأنقرة ثقل وخبرة مختلفين، فقد كانت طوال العقود الثلاثة والنصف الماضية إلى جوار بلدان تحت وطأة عقوبات دولية، وساعدها ثقلها السياسي والاقتصادي لتحصل على إعفاءات من تبعات العقوبات، حتى يمكن القول أنها استفادت أحياناً من موقعها هذا. نشير هنا إلى العقوبات على العراق وإيران وروسيا، وصولاً إلى الأسد الراغب في اقتفاء الأثر.
يدعم من قولنا أن أردوغان لن يزور دمشق انتفاءُ الحاجة إلى مثل هذه الزيارة، فبحسب الصحيفة التركية ذاتها يتعهد الأسد باحترام قرارات ثلاثي أستانة المتعلقة باللاجئين. إذاً، الطريق إلى موسكو وطهران أجدى وأقصر، تحديداً في القرارات الكبرى التي لا تُتخذ أو تُنفذ إلا برضا هاتين العاصمتين. وما يريده الأسد من أنقرة على صعيد إعادة الإعمار، مثل المساعدة في الكهرباء وتأهيل الطرق السريعة والزراعة والسدود…، ذلك كله بات يتطلب موافقة حليفيه اللذين يسيطران على العديد من القطاعات الاقتصادية السورية بموجب اتفاقيات طويلة الأمد.
يبقى بيت القصيد بالنسبة لأنقرة مطلبها إخلاء الشريط الحدودي من ميليشيات حزب العمال-الفرع السوري، وهي مهمة ينبغي أن تقوم بها قوات الأسد حيث لا توجد قوات أمريكية تمنعها. تنفيذ هذا المطلب “ضمن التنسيق بين الجانبين” يعني استئناف علاقات الجوار بينهما، بخلاف الاقتصار الحالي على نقاط التماس العسكرية الباردة أو المشتعلة. هذا هو الممكن المطلوب تركياً، أما المستحيل فهي مطالبة الأسد بالمضي في عملية جنيف، والقبول بدستور ديموقراطي وانتخابات حرة وإفراج عن المعتقلين. إن نصف هذه المطالب، في أعلى تقدير، لن يقبل به الأسد إلا مرغماً بضغوط دولية قصوى، وهو ما تدركه أنقرة التي تريد تسجيل نقاط معنوية فحسب.
بتلخيص ما هو ممكن في مطالب الجانبين؛ تحصل أنقرة على إنهاء الأرق الكردي، ويسيطر الأسد مقابل قيامه بهذه المهمة على مناطق تتواجد فيها الميليشيات الكردية، وفوقها على معبرين حدوديين وطريقين تجاريين يربطان المعبرين بدمشق وحلب واللاذقية، كناية عن أنهما لن يكونا شكليين. تنفيذ ما هو ممكن قد يفتح على تفاهمات غير واردة الآن، لذا يجب ألا ينام المعارضون السوريون على حرير ما يبدو مستحيلاً، ولا نقصد بالمعارضين أولئك الذين تعدّهم “وتعدِهم؟” أنقرة ليكونوا شركاء للأسد.
في المقابل من التصعيد العسكري “المؤقت والمدروس على الأرجح”، وفي حين قصفت قوات الأسد سوقاً شعبياً في مدينة الباب مرتكبة مجزرة، كان أردوغان العائد من أوكرانيا يؤكد للصحافيين في طيارته على نواياه “الحسنة” تجاه الأسد، والتي أبدى مثلها قبل أيام وهو عائد من سوتشي. هذه المرة كانت هناك جرعة زائدة بحديثه عن المؤامرة قائلاً: “يتوجب الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا، يمكننا من خلالها إفساد العديد من المخططات في هذه المنطقة من العالم الإسلامي”. هذا وجه جديد للتقارب، ولا داعي ليزور أردوغان دمشق؛ بوسعه التحدث عن المؤامرة الكونية من مكان آخر!
عذراً التعليقات مغلقة