أولا، في التمييز بين الهوية الثقافية والهوية الوطنية
تحتل مسألة الهوية موقعا متميزا اليوم في النقاش السوري في سياق البحث عن تفسيراتٍ عقلانية للعنف الاستثنائي الذي شهدته البلاد في العقد الأخير، والذي لا تزال وقائعه المرعبة تتكشّف كل يوم بشكل أكبر، من جهة، وكذلك للتشتّت الذي عرفته مقاومة السوريين السياسية والمسلّحة، وعجزهم عن تنظيم قيادة موحدّة تجمع شتات فصائلهم وتثمر جهودهم التي لا تقلّ استثنائية عمّا واجهته من عنف. ويميل معظم السوريين وباحثون كثيرون في الشأن السوري، والعربي عموما، إلى طرح هذه المسألة في إطار إشكالية الهوية، والتساؤل عمّا إذا وجدت هوية وطنية سورية أم لا، وما هي أسباب غيابها أو ضعفها.
وقد أصبح من العادي أن يتساءل السوري البسيط عما إذا كان وجود شعب سوري (واحد) حقيقة أم وهما، وفيما إذا كان بإمكانه لو وجد أن يستعيد وحدته، بعد ما جرى من فظائع خلال العقد المنصرم، والذي لم يقل كلمته الأخيرة بعد. وعندما تطرح مسألة الهوية في سورية، وربما بلدان المشرق عامة، يتجه الفكر مباشرة إلى ما درج الباحثون على تسميته التكوين الفسيفسائي للمجتمع السوري، أي التعدّدية الدينية والقومية التي رافقته منذ نشوء الدولة في العشرينيات من القرن الماضي.
يُفهم من ذلك أنه كان لهذه البنية الفسيفسائية دور كبير، إن لم يكن الدور الأكبر، في الحيلولة دون نشوء هوية وطنية، تجمع الإرادات وتوحد الرؤى وتعزّز التضامن بين أبناء الشعب الواحد. وأن فشل الدولة في توليد الجماعة الوطنية ذات الإرادة الواحدة يعود الى هذه التعدّدية التي استحال تحقيق الانسجام فيما بين أطرافها. وهذا يفترض ضمنا أن جوهر الأمة، بمفهومها الحديث المرتبط بالدولة، يكمن في تجانس سكانها. وقد يذهب بعضهم أبعد من ذلك، فيعتقد أن الحديث عن شعب أو أمة سوريين لم يكن إلا خدعة ذاتية، أو تركيبة خارجية، استعمارية، لا تتوفر لتحقيقها أي عوامل أو شروط موضوعية. وأن من الطبيعي والعقلاني اليوم الاعتراف بذلك، والسير نحو تقسيم هادئ أو بحكم الأمر الواقع. وهذا ما هو حاصل اليوم، وما تشجّع عليه الدول الغربية باسم الفدرالية او اللامركزية، أكان ذلك عن اقتناع أم لمصالح سياسية واستراتيجية لا فرق.
تسعى هذه المقالة إلى نقد هذه المقاربة، أولا من خلال التفريق بين الهوية الثقافية العابرة للتاريخ وللحدود الجغرافية السياسية، كما هو حال العرب مثلا اليوم، والهوية السياسية (الوطنية) التي هي، بالضرورة، هوية اصطناعية تنشأ مع تكوين الدولة الحديثة، وتثبيت حدودها وحقوقها ومصالحها، وهي ترتبط بها حتما. وثانيا إبراز عجز هذه المقاربة الأنثروبولوجية، لا عن تقديم أي فهم صحيح للأزمة فحسب، وإنما أيضا عن تصوّر أي أفق لتجاوزها. ومن ثم تكريس القطيعة بين ما أصبحت تسمّى “مكوّنات”، وهي مفردة تعكس انهيار الوطنية الواحدة في الوعي النظري مثلما هي في الواقع. وثالثا، في ما وراء ذلك، إلى إلقاء بعض الأضواء على مفهوم الأمة، بوصفه مفهوما سياسيا بالأساس، وتمييزه عن مفهوم القومية الثقافي، وربطه بمفهوم الدولة الحديثة بوصفها صناعة سياسية واعية، وتأطيرا للمجتمع الأهلي، لا انعكاسا مباشرا وبسيطا له، وقد تطوّرت مفهوما وممارسةً، ولا تزال من خلال معارك مستمرّة منذ أربعة قرون. ورابعا، لتأكيد الموقف الذي عبرت عنه في كتابي عن الطائفية، والذي يرى في هذه التعدّدية مصدر إثراء للهوية والوطنية لا إفقارا ولا تهديدا لها.
الهوية لا توجد بالمطلق لأنها ليست ماهية ثابتة تولد مع المرء، وتتحكّم في وجوده إلى النهاية، فالهوية تعبيرٌ عن علاقة اجتماعية هي بالضرورة تعدّدية
ثانيا، في وهم التجانس الثقافي وسوء مآله
يشكّل التفكير في الهوية بمنطق التجانس، أحد مخلفات الأدبيات القومية الكلاسيكية التي ركّزت منذ القرن الثامن عشر على وحدة اللغة والثقافة والتاريخ، وأحيانا العرق، وأدّت إلى حروب قارّية لتقريب الحدود الجغرافية للدولة من الحدود الثقافية. ويلتقي هذا التفكير مع ما تنادي به اليوم حركات اليمين السياسي المحافظ والمتطرّف في أوروبا التي ترى أن ازدياد عدد المهاجرين من المسلمين والأفارقة والآسيويين، وغيرهم يهدّد هوية الدول الأوروبية، بمقدار ما يحمل معه ثقافات مناقضة لقيمها الثقافية.
والحال أنه، بعكس ما تشيعه نظريات التجانس هذه، لا يوجد منطقة جغرافية خالية من التعدّدية الثقافية الدينية والقومية. ولم يتحقّق التجانس جزئيا في أي قُطر قبل نشوء الدولة الحديثة، كما أن من المستحيل أن يتحقق اليوم بالطرق التي تحقق فيها في القرن التاسع عشر من خلال قوانين قسرية، كانت السياسات القومية الفرنسية (اليعقوبية) النموذج الأبرز لها.
كما أن التاريخ لم يشهد، في أي حقبة، دولا تشكّلت على أساس هذا التجانس. بالعكس، لقد تشكّلت على الجمع أو التحالف بين العشائر والقبائل، ثم على الغزو والتوسّع لإضافة موارد جديدة للدولة، كما فعلت الدول الإمبرطورية التاريخية. ولذلك، اعتبر بعضهم أن القومية، كما ظهرت في القرن التاسع عشر، لم تكن سوى أسطورة أو صناعة خيالية ورمزية برزت للتعويض عن تقويض العصبيات الأهلية الحميمية (بندكت أندرسن). لكن الدولة الحديثة سرعان ما تخلت عن هذه الأسطورة القومية، مع تقدّمها في النضج السياسي، لتتماهى مع الديمقراطية التي تراهن على إدماج الأفراد، من كل الطوائف والمذاهب والإثنيات، في الجماعة الوطنية الواحدة، مع تركهم يعيشون انتماءاتهم واعتقاداتهم الأخرى كما يحلو لهم. فصارت السياسة تعني تعميم حقوق المواطنة، ومن ثم تنامي الفردية الحرّة، وتكوين رابطة ربما كان من الأصح نعتها اليوم بالمدنية أكثر من القومية أو الأمة. وصار من وظائف الدولة إدارة التعدّدية الفكرية والسياسية والثقافية بدل البحث عن صهرها أو طمسها، بوسيلة أو أخرى، كما كان الحال في بداياتها. أما شعارات القومية الكلاسيكية فقد تحوّلت إلى عنصر مقاومة لهذه الثورة المدنية، وصارت جزءا من عدّة اليمين المتطرّف الإيديولوجية وسلاحه في محاربة المهاجرين واللاجئين الذين حُرموا من دولة المواطنة ومن أي حماية دولية.
ثم إن الهوية، أي هوية، لا توجد بالمطلق لأنها ليست ماهية ثابتة تولد مع المرء، وتتحكّم في وجوده إلى النهاية، فالهوية تعبيرٌ عن علاقة اجتماعية هي بالضرورة تعدّدية، فالفرد يدخل في علاقات مع الأسرة، ويأخذ اسمه منها، ومع الجماعة الإثنية أو الدينية التي ينتمي إليها، ومع الحي أو القرية أو المدينة أو الحزب أو النقابة .. إلخ. وتعكس هذه الانتماءات مراكز اهتمامه ونشاطاته، وما يعرف عن هويته، أي ما يمثله، في نظر ذاته أولا، وفي نظر الآخرين الذين يتعاملون معه بوصفه ذاتا مستقلّة أيضا. ومن مجموع هذه الانتماءات تتشكل شبكة الاهتمامات والمصالح والتطلّعات التي تكون هويته أي فرادته، بوحدتها وتعدد أبعادها وتناقضاتها أيضا.
لا تقتضي المواطنة أو تأسيس أمة وجماعة وطنية محو الروابط والتجمعات الأهلية أو التنافس معها، وليس هذا هدفها
ولا يختلف الأمر بالنسبة للفرد في علاقته بالدولة التي تحتل موقعا مركزيا في شبكة علاقاته المتعدّدة لكنها لا تستنفدها. إنما تشير إلى رابطة من طبيعة أخرى، سياسية، تضاف إلى مجموع انتماءاته الأهلية أو المدنية. وكما يرتب انتماء الفرد لأسرة، أو عشيرة أو نقابة أو مهنة، الإلمام بلغة وثقافة مشتركة وقيم أساسية عليه استيعابها والالتزام بها، حتى يعترف له بعضويته فيها، كذلك يقتضي الانتماء للدولة الحديثة الأخذ بقانونها واحترام المبادئ التي تقوم عليها. والالتزام بقانون الدولة هو أساس العضوية فيها، أي اكتساب صفة المواطنة، الحبل الرابط بين أفرادها. وتعني المواطنة التمتّع بالحقوق الأساسية التي تتصدّرها الحرية، بمعنى استقلال الفرد بقراره فيما يتعلق بحياته، وبالمساواة في ممارسة هذه الحقوق. ولا يوجد دستور لدولةٍ حديثةٍ لا يقوم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات، حتى في الدول التي لا تحترم تطبيقه، فمن دونه لا توجد مواطنة، ولا بالتالي دولة بالمعنى الوطني الحديث للكلمة.
هذا يعني أن الدولة الحديثة لا تستمد شرعيتها من تقاليد وأعراف ثابتة سابقة عليها أو من فكرة الوازع الخلدونية بوصفه ضرورة لتحقيق النظام، وإنما من تأسيسها رابطةً جديدةً تجمع بين الأفراد من خارج الروابط الدينية والقبلية أو الإثنية التي تفرّق بينهم، وتضاف إلى الروابط القائمة. وهي رابطةٌ من نوع خاص تقوم على المشاركة في حياة سياسية واحدة محورها المشاركة في تحديد مهام السلطة العامة، وفي مناقشة القرارات التي تؤثر في مصير الأفراد وتعديلها. وليست الدولة إلا المنظم المركزي للحياة السياسية، أي الممارسة الجماعية للسلطة المنبثقة بشكل غير مباشر من الشعب. وهي لا تستمدّ شرعيتها إلا من توافقهم وتواضعهم على قانونٍ يجعل من إراداتهم المتعدّدة إرادة واحدة، هو قانون المواطنة، بصرف النظر عن اعتقاداتهم وهوياتهم الثقافية.
وفي هذه الرابطة الجديدة، ليس المهم اللحمة الموروثة ثقافيا أو بيولوجيا، كما في العائلة أو العشيرة أو القوم/ القومية، وإنما ما يكفله حكم القانون من حقوق للفرد، وما تقدّمه المواطنة من إمكانية المشاركة في القرارات العمومية. هكذا لا يصبح الفرد مواطنا على حساب انتماءاته الأهلية إلى عائلة أو عشيرة أو جماعة دينية وقومية، ولكن بالإضافة إليها. لذلك لا تقتضي المواطنة أو تأسيس أمة وجماعة وطنية محو الروابط والتجمعات الأهلية أو التنافس معها، وليس هذا هدفها. إنها تدشّن منصّة جديدة، لتواصل الأفراد وتعاونهم بوصفهم أفرادا مستقلين، فيما وراء انتماءاتهم العضوية، لتحقيق مصالح وفتح آفاق لا يمكن تحقيقها في الأطر الخاصة الأخرى. وهنا تكمن خصوصية الدولة وهويتها بوصفها مركز تنظيم الحياة السياسية الجديدة، وجهازها العصبي، ومحور بناء الأمة المكونة من أفراد أحرار ومتساوين وفاعلين في الحياة العامة، أي مشاركين في القرار على مستويات مختلفة، بصرف النظر، كما سبق الذكر، عن انتماءاتهم الأهلية وخارجها.
تتأكد من جديد حقيقة أن قيمة الدولة الوطنية، أو بتعبير أدقّ دولة المواطنة، لا تنبع من تجسيدها أي هوية ثقافية إثنية أو دينية، وإنما من إبداعها
هكذا صارت الدولة الوطنية مطلب جميع الشعوب ومدخلها إلى مسرح التاريخ العالمي ووسيلتها للتفاعل مع الشعوب الأخرى. وصارت القوميات الصغيرة والكبيرة تطمح إلى إنشاء دولها الخاصة، ليس من أجل الحصول على حقوق المواطنة: الأمن والحرية والسعادة وتحسين شروط الحياة المدنية فحسب، وإنما، أكثر من ذلك، لما تفتحه أمامها وأمام أفرادها من آفاق وفرص للتقدّم والترقي لا تتيحها الروابط أو الهويات الأهلية.
ثالثا، في أن الوطنية لا توجد بغياب المواطنة
لكن بمقدار ما تحوّلت إلى أسطورة ورمز للتحرّر والتقدّم والدخول في الحياة العصرية، أي السيادة الشخصية على الذات، والسياسية على الدولة وسلطتها العمومية، فجّرت الدولة الحديثة لدى الشعوب التي لم يواتها الحظ في بناء دولتها المستقلة شعورا مأساويا بالحرمان والظلم. وأحدث مبدأ حق تقرير المصير الذي أطلقه الرئيس الأميركي، ترومان، في بدايات القرن العشرين ثورة بمقدار ما ألهب حماس النخب الاجتماعية التي طاولها التهميش المديد، بسبب أصولها الإثنية أو الدينية، للمطالبة بدولتها الخاصة الوطنية، فانطلقت حركات التحرّر الوطني، واستقلت عشرات الدول، وفاق عددها اليوم 193 دولة. لكن ربما لا يتجاوز عدد الدول التي تحقّق مفهومها بالفعل، وتلبّي مطامح سكانها وتطلعاتهم إلى مواكبة المدنية الحديثة، العشرات منها، بينما تعيش أغلبها في أزمة مستفحلة، بسبب عجزها عن تأمين الحقوق والحريات والتعهدات التي تبرر وجودها. فصارت بذلك عالة على شعوبها، وأحيانا سجونا ومعسكرات اعتقال وتعذيب وتجويع، بدل أن تكون وسيلة للتحرّر والانعتاق والتفتح والازدهار في حياة الأفراد المادية والثقافية. صار المليارات من البشر يعيشون في بلدانهم فيما يشبه وضع اللاجئين. أما اللاجئون الفعليون فهم اليوم طريدو الدول الوطنية، وحتى الديمقراطية، التي تعيش مفارقات الحداثة وزوال عديد من أوهامها.
وفي هذه المحنة الأليمة التي أخذت تعيشها تلك الشعوب التي حلمت بالدولة القومية طريقا إلى الحرية والخلاص تتأكد من جديد حقيقة أن قيمة الدولة الوطنية، أو بتعبير أدقّ دولة المواطنة، لا تنبع من تجسيدها أي هوية ثقافية إثنية أو دينية، وإنما من إبداعها، بوصفها رابطة سياسية، أي ناجمة عن التفكير العقلي، وهذا ما يميّز السياسة عن العصبية القبلية أو الدينية، فضاء أو إطارا جديدا (سياسيا) أوسع وأفرج وأرحب، يسمح للأفراد ويمكّنهم من التعاون مع أندادهم، بالرغم من اختلاف هوياتهم الثقافية الدينية والقومية، ومع احتفاظهم بها. وشرط نجاح هذا الإطار السياسي أن يساوي بين الأفراد من وراء انتماءاتهم الأهلية. لذلك لا تتحقق الوطنية إلا بين مواطنين مستقلين وأحرار، ولا تنمو وتنضج إلا بتوسيع دائرة ممارسة الحقوق والحريات، ولا تستقر إلا بترسيخ سلطة القانون. وفي إطار هذه المواطنة، تنشأ الفردية كإرادة ووعي مستقليْن، بمقدار ما تتيح للفرد التحرّر النسبي من عصبيته العضوية. وأي محاولة لمطابقة الهوية الوطنية مع الهويات الثقافية أو العضوية أو دمجها فيها يعني تقويضها والانتكاس من الكونية إلى الخصوصية، ومن الفردية إلى العصبية الجمعوية، ومن ثم تقويض مبدأ المواطنة والوطنية معا.
والخلاصة، ليس البحث عن حل أزمة الهوية الوطنية، في إطار مفهوم التجانس، طريقا مسدودة فحسب، ولكنه حامل لمخاطر كبيرة. وجميع الحركات التي نزعت هذا المنزع انتهت إما بحروب تطهير عرقية أو بشرعنة إقصاء جماعات ترى فيها تهديدا لصفائها، وربما تهميش الأكثرية وتحويل نخبة السلطة إلى عنوان الوطنية. ومثل هذا التجانس أو الصفاء الثقافي والعرقي هو ما سعت إليه ألمانيا النازية، وهي قومية تراجعت إلى مفهوم العرق، بدل أن تتقدّم نحو قانون المواطنة، وقاد إلى انهيارها. ولا أعتقد أن لهذه الدعوة التجانسية أي أمل في التحقق في إطار أي نظام سياسي من خارج منطق التطهير الإثني أو الديني، كما هو حاصل اليوم بالفعل مع شعب الإيغور المسلم في الصين التي تتبنّى رسميا أيديولوجية علمانية، ولشعب الروهينغا والمسلم أيضا في الهند الليبرالية، وشعوب عديدة صغيرة في بلدان كثيرة أخرى.
ليست هناك حاجة لأحد كي ينكر تراثه القومي أو روابطه الأهلية، كي يكون مواطنا صالحا، ولا يشكّل ذلك شرطا لتأكيد مواطنته في الدولة القائمة
لا يعني هذا أن القومية بمعنى الانتماء إلى أرومة ثقافية وتراث وتاريخ قد اختفت أو هي في طريقها إلى الاختفاء مع صعود نجم الدولة الديمقراطية التي تساوي بين مواطنيها بصرف النظر عن أصولهم القومية ودياناتهم وفلسفاتهم، فعدا عن أن ذلك من المستحيلات، لأن الثقافة مادّة حياة البشر التي تشكل ذاكرتهم وتصوغ مشاعرهم وأفكارهم، فإن تاريخ الشعوب، ومن ثم الثقافات، لا يتطابق مع تاريخ الدول، وهو سابقٌ عليها ومستمر بعدها. فالدولة شكلٌ من التنظيم السياسي الأكثر تعرّضا للانقلابات والتحولات الطارئة، لكن الشعوب والثقافات تشكيلات عابرة للدول، ولها حياتها الخاصة خارجها، وقد تعيش حقا أو وهما عند أصحابها آلاف السنين.
لذلك ليست هناك حاجة لأحد كي ينكر تراثه القومي أو روابطه الأهلية، كي يكون مواطنا صالحا، ولا يشكّل ذلك شرطا لتأكيد مواطنته في الدولة القائمة، ولا في جعل هذه الدولة أكثر تحقيقا لشروط الازدهار والتقدّم المادي والسياسي وحكم القانون، فلكل رابطة حياتها الخاصة التي تتقاطع مع الروابط الأخرى في دوائر معينة وتبتعد عنها.
وللهويات الإثنية، وهي جوهريا ذات بنية ثقافية، حياتها الخاصة التي تتطوّر عبر الزمن والتقلبات السياسية، وتغتني بها، وتعيد تشكيل نفسها في كل حقبةٍ تاريخيةٍ بصورة متجدّدة. وليست الدول التي تنشأ وتزول إلا الإطار التنظيمي المتجدّد لهذه البنيات العميقة والتاريخية التي تفور بالحياة وبالتغير والتقلب الدائمين. لكن في بنية الدولة وأسلوب إدارتها وخيارات نخبها السياسية وعلاقتها مع شعوبها، ينبغي البحث عن جذور أزمة الهوية الوطنية، بما في ذلك عودة الروح إلى العصبيات الأهلية والخصوصيات الطائفية والدينية، فالمصدر الأول للاضطرابات والانفجارات التي تشهدها الدولة شبه الوطنية اليوم في بلاد الجنوب الفقيرة يرجع إلى خيبة أمل شعوبها بها، بعد أن كادت تخلع فيها ذاتها على أمل أن تمكّنها من الوصول إلى جنة المدنية الحديثة الموعودة. وإذا كان للعوامل الثقافية أو التاريخية المتمثّلة في الحساسيات الإثنية أو الطائفية بعض الأثر في عرقلة نضوج الهوية الوطنية لكن إجهاض هذه الهوية أو غيابها هو من دون أي مقارنة النتيجة المنتظرة والمقصودة لسياسة واعية، واستراتيجية ممنهجة، لنخب حاكمة نجحت، وبمساعدة أولياء أمرها الخارجيين في أكثر الأحياء، في قلب الطاولة على أصحابها المفترضين، ومصادرة الدولة الحديثة، وتوظيف موقعها المركزي وآليات السيطرة الشاملة التي توفرها والطوبى التي تبعثها، لإخضاع شعوبها وتسخيرها لخدمة أهدافها الخاصة ومراكمة مصالح ومنافع استثنائية لا يمكن تحقيقها من دون تقويض الجماعة الوطنية أو الحيلولة دون تكوينها، واستخدام كل الوسائل الممكنة والمتاحة في الداخل والخارج، بما في ذلك تلغيم تناقضات المجتمعات الأهلية وتفجيرها، لإلغائها. وهذا ما سوف أتناوله في مقالة قادمة.
عذراً التعليقات مغلقة