لم أتردد كثيراً في قراري بكتابة مقال أقص فيه ما عايشته خلال رحلتي من تركيا إلى أوروبا، التي بدأت بعد مرور سنوات على الحصار والقصف في ظل ظروف غاية في الصعوبة ضمن مدينة حمص السورية، نحو مدينة إدلب التي وصلتها مهجراً عن مدينتي الأم، ومنها انطلقت بمحاولات متكررة حتى وصلت إلى تركيا، وجاء قرار الهجرة إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل لي حُرمت منها في بلادي وفي تركيا لم يكن الحال أفضل ما دفعني إلى اتخاذ القرار المصيري ومعه بدأت الرحلة التي تنوعت خيارات الموت خلالها قبل النجاة والوصول إلى الهدف باللجوء إلى دولة أوروبية أقيم فيها منذ أشهر قليلة.
بداية الرحلة
خرجت من ولاية اسطنبول التركية نحو نظيرتها “أزمير”، مكثت هناك 23 يوماً من الانتظار، عجت تلك الفترة بالأسئلة التي جالت في خاطري، هل سيفتح الطريق أمامي نحو مستقبل أفضل جديد؟ أم إن التعثر في ذلك سيكون عنوان المشهد الذي يخيم على حياتنا اليومية، لا سيما مع ظروف الحرب القاهرة التي عايشتها في حمص وصولاً إلى إدلب.
بعد هذه المدة وصلت إلى “اليونان”، وفي جزيرة “اليوروس” في العاشر من شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام 2018 تحديداً هذا الاسم الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً في بداية رحلة الهجرة، حيث كانت البداية في هذه الجزيرة التي بقيت عالقاً فيها مدة ستون يوماً، لم أشعر بالراحة النفسية فيها وسط مخاوف كبيرة من الفشل في تحقيق ما أهفو إليه شغفاً بالحياة الكريمة ليس إلا.
الوقائع التي عاينتها توحي دون أدنى شك بأن الخروج من هذه الجزيرة الصغيرة أشبه ما يكون للانجاز، لكنني أعلم بأن الطريق لا يزال في البداية وعلى مواجهة التحديات والصعوبات وتذليلها للوصول إلى الهدف المنشود لعلي أحظى بالحياة التي تمنيتها وأيقنت أن المسير باتجاهها يكلف الروح والجسد العناء الكثير.
بأعجوبة وصلت إلى العاصمة اليونانية “أثينا”، التي قضيت فيها ليلة يتيمة لأكمل طريقي إلى منطقة “سالونيك”، ومنها إلى “كاستوريا”، لأصل إلى الحدود الألبانية وهنا شعرت بإتمام الخطوة الأولى على هذا الطريق الشاق الذي كانت بدايته كفيلة بأن تكشف عما سيحمله من عذاب ومشقة لشخص أنهكته ظروف الحروب والحصار لسنوات طويلة.
حرارة تحت الصفر ونوم في العراء
نعم إنها الثلوج التي كانت على مستوى لم أعتد عليه من قبل في استقبالي، من الساعة الثامنة مساءً وحتى السادسة صباحاً وفي ذروة انخفاض درجات الحرارة دخلت برفقة بعض الشبان ممن يشاركونني طريق الهجرة إلى الأراضي الألبانية، وكان بحوزتنا مياه الشرب التي تجمدت بتأثير انخفاض درجات الحرارة، نفقتد لأهم مقومات الحياة، عرفت حينها أن احتمالات الموت قد تحول بيني وبين الوصول ومع كثير من الأمل في تحقيق الهدف، قابل ذلك ما بات يتبادر إلى ذهني فكرة الموت عطشاً وجوعاً أسباب الموت التي فررت منها من بلدي ولازمتني سنوات طوال.
وكان مكان إقامتي الأول كوخ صغير مهجور يعم جوانبه الخراب، ومن الساعة السادسة صباحاً كنت مجبراً على أن أقف منتظراً لسيارة تنقلنا من المكان الموحش وذلك ما تم في تمام الساعة العاشرة أي بعد أربع ساعات من الانتظار، وبعد الانطلاق وصلت إلى “تيرانا”، التي قضيت فيها ليلة وحيدة واستكملنا الطريق إلى حدود “كوسوفو”، وهنا بدأت صعوبات الطبيعة الجغرافية تطغى على مشهد الرحلة التي بدأت من هذه الحدود بصعود جبل شاهق الارتفاع، كانت أجسادنا المنهكة والمتعبة لا تقوى على الصعود، لا أنسى كيف سقطت في منتصفه بعد أن خارت قواي عن الحركة من شدة الألم والتعب، حتى فقدت القدرة على التنفس لبرهة، لكن لا خيارات أخرى ولا بديل عن صعود الجبال دون أدنى مستوى من تدابير الوقاية من المخاطر المحدقة بنا في ظلِّ هذه الظروف.
انتهت هذه المرحلة مع اجتياز حدود “كوسوفو”، التي قضيت فيها خمسة أيام، كانت الأجمل بنظري حسبما شاهدته في الأيام القليلة التي بقيت فيها هناك، ومنها وصلت إلى “صربيا”، درجة الحرارة المنخفضة تحت الصفر كانت أبرز الصعوبات التي أنهكت أجسادنا بشكل كبير، ومقارنةً بمدة شهرين وثلاثة وعشرين يوماً التي قضيتها فيها، كانت من أصعب المراحل التي مررت بها، عبرت خلال هذه الفترة غابات مخيفة لكن كنت أجزم بأنها لم تكن موحشة بقدر ظروف الحصار والحرمان الذي عايشته بمدينة حمص.
وخلال هذه الفترة كان حق النوم والراحة لأي إنسان حلماً بعيد المنال ويصعب علينا تحقيقه إلا بقدر يسير مع كثير من الخوف والرعب والترقب لما قد نصادفه من مخاطر تحت ظل الأشجار الكثيفة التي بدأت استخدمها للنوم بوضع بعض الأغصان والاستلقاء عليها.
الحيوانات المفترسة شريكة الرحلة
تقاسمنا الليالي هناك مع أصوات الحيوانات المفترسة التي أعجز عن تسمية أصنافها لكثرتها، كما يراودني العجز ذاته في تحديد مشاعري تجاه الواقع الذي يتفاعل معه جسدي كما رفاقي بالارتجاف الشديد وهنا يكمن العجز في استحالة تحديد هل ارتجف برداً أم خوفاً..؟!
المحاولة الأولى باءت بالفشل على الحدود مع هنغاريا، البلد الذي عايشت فيه مواقف أجزم بأنها أخذت من شبابي الكثير، لا يغيب عن ذهني الارتفاع الكبير للشريط الشائك على تلك الحدود الذي يبلغ ارتفاعه ما لا يقل عن أربعة أمتار، وحتى مع اجتيازه المستحيل نظرياً كان الأصعب عبور الشريط المشابه له والذي يبعد عنه مسافة قريبة، مزود بتيار كهربائي 24 فولت، ضرب جسدي المرتعش من البرد في فصل الشتاء، بأعجوبة عبرت هذا الشريط الحدودي.
ومع دخولنا إلى الأراضي الهنغارية لم يكن الحال أفضل بالنسبة لطرق العبور والوصول حيث كنا مجبرين على المشي لمدة يومين متتاليين بدون طعام وشراب، وتحت وطأة هذه الظروف العصيبة كنت أفكر جدياً بأن أقوم بتسليم نفسي للسلطات المحلية في “هنغاريا”، للتخلص من عذابات التعب والإرهاق والجوع المميت، لكن لم أفعل ذلك على أمل الوصول قريباً إلى مكان أكثر أمناً أحظى فيه بالعيش المأمول.
معارك البقاء وسط خيارات الموت
وفي ذات ليلة شديدة البرودة من السير ضمن الأراضي الزراعية والغابات كان شعور العطش قاتلاً، في هذه الأثناء وجدنا بركة مياه تعج بالأعشاب والديدان لكن العطش أجبرنا على تعبئة العبوات الفارغة التي بحوزتنا منها، وشربت منها رغم التأكد من وجود بعض الديدان بداخلها ظهر ذلك وعاينته على ضوء القمر الخافت في تلك الليلة التي تشابهت مع العشرات مما قضيته في رحلة البحث عن الحياة والمستقبل على الصعيد الشخصي.
شعور جميل ومختلط بين تجاوز العقبات والعراقيل والقدرة على المسير وقت إضافي بسبب تناولي كميات من المياه، تم مطاردتنا بكلاب بوليسية وحوامة إلا أن حظنا الوافر بالعيش بعد كل هذه التحديات حالفنا في هذه المرة أيضاً.
وبواسطة سيارة خرجنا من “هنغاريا” التي مشينا على الأقدام فيها مسافة مئة كيلو متر، نحو “فيّنا”، وسط مخاوف كبيرة بالنسبة إلى إعادتنا من حيث بدأنا في حال تم إلقاء القبض علينا في الغابات والطرق الوعرة والمناطق الحدودية، وبواسطة قطار إلى ألمانيا وواجهت بعض الصعوبات حتى وصلت إلى “هولندا” حيث انتهى بي المطاف.
أحد رفاقي في رحلة البحث عن المستقبل الذي حتم علينا خوض البحار والأنهار والغابات يدعى “إيهاب صابوني”، 45 عاماً، لم أكن أعرفه سابقاً، إلا أن الأيام التي قضيناها سوياً بعد أن تعرفت عليه في العاصمة اليونانية أثينا، على الحدود الألبانية تعرض للسقوط في جرف هاوي، ضمن منطقة جبلية صعبة التضاريس وبقيت أعتني فيه رغم تعبي الشديد وحملت أغراضه الشخصية، بسبب إصابته تأثراً بالسقوط الذي تعرضت له أيضاً مراراً كما مجمل رفاقي الذين كانوا معي، الأمر الذي كان يعثر علينا الطريق ويزيد من صعوباته الكثيرة.
الموت جوعاً أو تناول الفحم.. مواقف الحرب تتكرر في رحلة اللجوء
لم تكن وحشة الغابات والجبال والوديان وحدها التي تواجهنا في هذا الطرق، وكل هذا لم يثني عزيمتي والأمل بالوصول إلى الحلم المنشود، على حافة الموت الذي يمكن مقابلته وجهاً لوجه في حال تعثري وسقوطي رغم الحذر الشديد في وادي ضمن الغابات التي عبرتها حتى الوصول إلى “هولندا”.
لم تكن الاختيارات واسعة فالموت جوعاً يقابله تناول ما قد تراه أمامك للبقاء على قيد الحياة لفترة أطول، تبادرت فكرة تناول الفحم الناتج عن نار قمنا بإشعالها، ظننت أن الفكرة الجنونية مجرد مزحة إلا أن تنفيذها من قبل رفيقي شجعني على تكرار مافعله وتناولت الفحم، في محاولة للبقاء أحياء إلا أن المعاناة زادت أكثر بكثير بسبب مضاعفة شعور الجوع والعطش، إلا أن خشية مواجهة الموت جوعاً كانت تجبرنا على هذه التصرفات، ولعل غرابة قراءة المشهد تصدم القارئ لكن ما حدث كان واقعاً ومؤلماً وعاد بي إلى حصار حمص، وبدأت بالتوصل إلى قناعة مفادها أن ثمن الحياة الكريمة باهظ جداً، ولا يدفعه إلا من لم يعد لديه خيارات سوى التضحية بما تبقى، في رحلتي التي استغرقت نحو 4 أشهر من التحديات والمخاطر.
عذراً التعليقات مغلقة