عندما أكتب عن الثورة السورية، وما تعرضت له من مؤامرات وحروب لم تتوقف حتى الآن، فإنني أكتب عن الثورة اليتيمة، الفاضحة الكاشفة، أعظم ثورة عربية أسقطت في طريقها الكثير من الأقنعة، وكشفت قبح الوجوه وزيفها، وتقلب المواقف وتبدلها.
لا زالت ترن في أذني، هتافات المظاهرات التي كانت تخرج في درعا وحمص وحماه وإدلب للمطالبة بالحرية وإسقاط النظام الأسدي. كانت الإحصائيات التي تنشرها تنسيقيات الثورة تتحدث عن تظاهرات في مئات النقاط، وكانت شاشة الجزيرة تنقسم إلى ثمانية مربعات، في كل مربع مشهد لتظاهرة في مدينة من المدن، وعندما أوشك جزّار دمشق على السقوط تدخل كل الساقطين لإنقاذه.
آلاف المجازر أسفرت عن مئات الآلاف من الشهداء، وأضعافهم من الجرحى، وأضعاف أضعافهم من المشردين والمهجرين؛ في كل بيت مأساة وقصة، وفي كل حي مئذنة مدمّرة وبيوت مهدمة، وفي كل مدينة ثورة لم تكتمل وجلادون معدومي الضمير.
لقد رأينا الأشلاء والمجازر، الأحياء والمنازل المدمرة، باصات الترحيل، لكن هذا هو الجزء الظاهر من الصورة، وكان كافيا لإثارة مشاعر التعاطف والتضامن مع الضحايا، ومشاعر الحقد والكراهية ضد جزّار دمشق ومناصريه من الدول والتنظيمات وشبيحة الممانعة أينما كانوا، لكن ماذا عن الجزء الذي لم تظهره الصورة؟
على امتداد سنين الثورة، نقلت لنا شاشات التلفاز الجزء الظاهر الذي يمكن رؤيته بالعين المجردة، لكنها لم تستطع أن تنقل لنا مشاعر الضحايا النفسية التي تلازمهم طوال الوقت؛ شعور الفقدان الذي يتكرر بمأساة جديدة، شعور الحنين إلى المنزل والبلدة قبل التهجير، شعور الأسى والحزن بعد اختطاف شخص عزيز أو قتله بدم بارد، شعور الذل والهوان بعد اقتحام الجلادين للمنزل، شعور الكراهية والبغض تجاه صورة الطاغية وكل مايتعلق به، شعور الوداع عند ركوب حافلات الترحيل، شعور الخوف المصاحب للقصف بالبراميل المتفجرة، شعور البهجة بتجاوز الحاجز الأمني دون توقيف.
إن الحديث عن أكثر من 15 مليون مابين شهيد وجريح ومختطف ومشرد، يعني الحديث عن ملايين القصص التي لم يوفها الإعلام حقها بعد، ولو كنا في مجتمع سوي لكانت قصة واحدة كافية لإنزال الطاغية من عرشه، ولكن ثمة طريق طويل بين “لو” و “لكانت”.
وعلى الرغم من مرارة المأساة، التي عوقب بها الشعب السوري بسبب ثورته، إلا إن هذه الثورة يحسب لها، أنها كشفت حقيقة كذبة مايسمى المجتمع الدولي وتغنيه بحقوق الإنسان وهذه رسالة لمن لايزال يضع ثقته بهذا المجتمع ويعول عليه في الانتصار للضحايا، وكشفت الثورة السورية أيضا، حقيقة أنظمة العار العربية التي وقفت بكل قوتها في صف طاغية الشام، وحقيقة تيار الممانعة الذي تتزعمه إيران ومليشياتها في المنطقة، وظهرت حقيقة هذا التيار الذي يزعم مقاومته للكيان الصهيوني، في حين أنه كان يمارس أبشع الجرائم بحق السوريين، والتقى مع إسرائيل في نفس الخندق؛ خندق الدفاع عن جزّار دمشق والحيلولة دون إسقاطه مهما كان الأمر.
ولقد برهنت الثورة السورية بشكل عملي، على هذه الحقائق وغيرها، مما كان يحتاج لإقناع الناس بها زمنا طويلا.
ومما يرثى له في موضوع الثورة السورية، إعلاء كثير من العرب للجنسية والقومية، فأضحت الثورة اليتيمة لا تهمهم كونها خارج حدود دولهم التي رسمها اتفاق سايكس_ بيكو، بل أضحى التعاطف ودعم الثورة السورية ضربا من التدخل بشؤون الآخرين. يالوضاعة هذا التفكير، الذي يسمح بإزالة شعب من على الخارطة وإبقاء صنم واحد فقط، يالوضاعة تفكير يستنكر التدخل بالكلمة في شؤون الدول ولا يستنكر سفك دماء مئات الآلاف من الناس، ويالوضاعة تفكير يرفض تدخل الجار التركي المسلم ويصفه بالاحتلال، ويرحب بالتدخل الروسي الإيراني الأمريكي ويصفه بالتعاون المشروع.
ولقد تعرضت فيما مضى لانتقاد من أصدقاء لمجرد اهتمامي بمتابعة أخبار المسلمين في أكثر من قطر، ومنها أخبار الثورة السورية وما تتعرض له من ظلم وبطش شديدين، إذ كانوا يرونه اهتماما مبالغا فيه، ويشدون أزري للعودة إلى حظيرة الجنسية والوطنية، وكنت أشفق عليهم وعلى طريقة تفكيرهم تلك، ثم أسأل نفسي: لماذا يتحد الطغاة فيما بينهم بينما الشعوب تصنع حواجز فيما بينها؟ لماذا يتدخل حاكم الإمارات في سوريا وليبيا والهند والصين لمحاربة المسلمين، بينما يرتفع هرمون الوطنية عندما تتدخل الشعوب لمناصرة بعضها ولو بسلاح الكلمة؟ لماذا يعتبر الحزب التركستاني إرهابيا لمناصرته المستضعفين السوريين، بينما لا يعتبر كذلك تدخل ميليشيات حزب الله وفاطميون وزينبيون؟
إن أحلام الحرية والكرامة التي كانت تغشى الثائرين في ميادين سوريا وليبيا وتونس ومصر، كانت هي أحلامي وعندما انتكست، كانت هي أحلامي أيضا، وما شهدته سوريا منذ اندلاع ثورتها قبل تسع سنين، جعلها في أولويات متابعاتي واهتماماتي، كأعظم ثورة عربية ضد طاغية حتى الآن.
شعور العجز الذي كان يحيط بالمستضعفين وقد أفرغ الجلادون الرصاص عليهم، كان يصيبني أيضا، البيت الذي دكته عصابات الأسد في حمص وتقصفه روسيا في إدلب هو بيتي، الأسرة التي حاصرتها عصابات الأسد في الغوطة ومضايا وحلب هي أسرتي، الأم التي فقدت ابنها في سجون الجزّار هي أمي، وقبل ذلك الثورة التي خرجت ضد نظام الأسد وغيره من أنظمة الظلم، هي ثورتي، ومن واجبي الدفاع عنها بما أستطيع حتى آخر نفس لي في هذه الحياة.
عذراً التعليقات مغلقة