وتحوّل “رفض تطبيع العلاقات مع العدو” أو “الكيان الصهيوني” أو “الكيان الغاصب” إلى شعار القوى السياسيّة المعارضة لاتفاقيّات السلام. والتقى خلف هذا الشعار مؤيّدو “السلام العادل” غير المنفرد، على أساس حلٍّ عادلٍ لقضية فلسطين، مع رافضي أيّ نوعٍ من السلام، واختُصِر المشترك بـ “رفض التطبيع”.
وبعد أن وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية والأردن اتفاقيّاتٍ من أنواعٍ مختلفة، ونشأت حالة تطبيع العلاقات مع إسرائيل رسميّاً عبر ممثليّاتٍ وسفارات وغيرها، وفي إطار اتفاقياتٍ تجاريةٍ وتعاونٍ اقتصادي وسياحي، بات الرهان معقوداً على المجتمعات واتحاداتها ومؤسساتها أن تأبى تطبيع العلاقات، ولا سيّما الزيارات المتبادلة والأنشطة المشتركة بين مؤسسات المجتمع المدني من نقاباتٍ واتحادات كتابٍ واتحاداتٍ رياضيّة وغيرها. كانت ظاهرة رفض التطبيع بمجملها حراكاً اجتماعياً سياسيّاً صحيّاً، وما زالت كذلك، على الرغم من استغلال أنظمةٍ عربيةٍ لها لتخوين معارضيها، في الوقت الذي كانت تخوض فيه مفاوضات سلام مع إسرائيل، وتعلن على الملأ أن السلام خيارها الاستراتيجيّ؛ كما تخللتها مزاوداتٌ وشعاراتٌ وحالات تخوينٍ اختلط فيها الحابل بالنابل، وذلك في مقابل حالات تسلل فردي لإقامة علاقاتٍ ثقافية وغيرها، أو حتى للعمل في فلسطين المحتلة.
لقد نسجت علاقات على مستويات عدة، وكان لا بدّ من التصدّي لتطبيع العلاقات. ولكن بعضهم استغل التصدّي للتطبيع للعودة إلى شعاراتٍ جوفاء، ثبت فشلها واتضح دورها في التغطية على واقع بائس منذ هزيمة عام 67، ولإحياء مصطلحاتٍ تبيّن عدم صلاحيتها لفهم المنطقة العربية، ولا لإدراك ما يدور في الكيان الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الصهيوني نفسه. وكالعادة، نشأ أصوليو الكلمة الذين يُنصّبون أنفسهم محللين ومحرّمين في خواء فكري وسياسي، من دون أي نوعٍ من الاستراتيجيّة التي تربط بين الهدف والوسائل للوصول إليه. فمهمّتهم تخريب النضال، بتحويل الصراع من صراعٍ مع إسرائيل إلى صراعٍ داخليٍّ، الأخطر فيه، بنظرهم، هم الأكثر وطنيةً، لأن العميل مفضوح، ولكنّ الوطنيّ هو الذي يجب فضحه وإظهاره على “حقيقته”، فلا يبقى في الدنيا وطنيون غيرهم؛ هذا مع أن معظم طاقتهم موجّهة ضد الوطنيين، ولا يبقى لديهم الوقت للقيام بأي نضالٍ ضد إسرائيل، وهم في غيّهم سادرون. بوجود محبّين لفلسطين من أمثال هؤلاء لا تحتاج فلسطين إلى أعداء.
وتبقى هذه مسألةً مهمّةً في سياق الصراع، فالقوى العربيّة المتمسّكة بالقضيّة الفلسطينيّة وعدالتها، والتي تعتبرها قضيّتها، وليست قضيّة الشعب الفلسطينيّ وحده، وترفض قبول إسرائيل جزءاً طبيعياً من المنطقة، تتبنى رفض التطبيع بوصفه موقفاً بديهياً. وهذا ليس مجرد شعار، بل يعني رفض أن تكون العلاقات مع إسرائيل طبيعيّة، مثل العلاقات مع أي دولةٍ أخرى. وبطبيعة الحال، فإن القطع الكامل مع إسرائيل ومؤسساتها هو الأسلوب الأبسط والأنجع. لأنّ القبول بهذه العلاقة أو تلك لاعتباراتٍ خاصة قد تفتح الباب على مصراعيه، لتدفّق المطبعين. وحججهم كثيرة، ومنها الصلاة في الأقصى، وتحمّل الختم الإسرائيلي على الجواز في سبيل ذلك. وترحّب إسرائيل غالباً بهؤلاء الزوّار الجدد للقدس في ظلّ سيادتها. وهي تمنع غير المرغوب فيهم من عبور حدودها أصلاً. ومن الصعب على الناس عموماً أن تحلّل كلَّ حالةٍ على حدة، وأن تفهم لماذا يُسمح بهذا ولا يُسمح بذاك.
ويكتسب الموضوع راهنيّةً في الدول العربية التي تحتفظ بعلاقاتٍ دبلوماسية عادية مع إسرائيل. فالتحدي مطروحٌ في مصر والأردن بإلحاحٍ أكبر منه في سوريّة ولبنان والعراق والمملكة العربيّة السعوديّة. وقد يواجهه المواطن في الأردن يومياً. لكن، منذ “أوسلو”، شهدنا محاولات لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، قامت بها دول عربية لا تحدّ فلسطين، أو ليست دول مواجهة.
وجرى بعض هذه المحاولات بعد اتفاقيات أوسلو بحجّة أن هذه الدولة أو تلك لن تكون أكثر فلسطينيّة من الفلسطينيين. ففُتحت ممثليّاتٌ دبلوماسيّة في حالة تونس وموريتانيا، وفُتح المجال للسياحة في المغرب وتونس، وافتُتح مكتبا تمثيل تجاري في عُمان وقطر. وقد أغلق المكتب في الأخيرة بعد حرب غزّة عام 2009. وما زال مغلقاً. وأخيراً، حصلت واقعةٌ غير مسبوقة، هي زيارة وفد سعوديّ إلى إسرائيل ولقاء نواب إسرائيليين، كما شاركت دولة الإمارات في مناوراتٍ عسكرية أميركية تشارك فيها إسرائيل. وتنشر مقالاتٌ وأخبار إسرائيلية موثوقة المصادر عن علاقاتٍ متطورة بين البلدين. وليس سرّاً أن بعض الدول الخليجية مهتمة بتطوير علاقات تنسيقٍ سياسي وأمني مع إسرائيل، مرةً بحجة أن إيران عدو مشترك. وهي نظريةٌ إسرائيليةٌ، وأخرى بدوافع متعلقة بتوثيق العلاقة مع أميركا. والحقيقة أن بعض الدول العربية تتنافس فيما بينها على توثيق العلاقة مع الولايات المتحدة، ونيل ثقتها وتقديرها، وبعضها لا تهمّه الوسائل. ومنها من يحافظ على علاقاتٍ ممتازة مع إيران في الوقت ذاته.
وعندما تُتخذ خطواتٌ نابعة من سياسات كهذه، يصبح النقاش في التفاصيل عقيماً. فلا يفيد الانجرار في نقاشٍ شكليّ حول عدم توفّر إثباتاتٍ على وجود علاقات أمنية مع إسرائيل، وهل هذه الزيارة العلنية جرت بإذنٍ أو من دونه، أو غيرها من النقاشات التي ينشغل بها الإعلام الفاقد للاستقلالية المهنية. فهذه النقاشات تعمي عن رؤية ما هو واضح وضوح الشمس، وهو وجود خيار سياسيٍ ونهج كاملٍ لا يسلم فقط أنّ العلاقة مع إسرائيل يجب أن تكون علاقة مفاوضاتٍ وتسويةٍ وتسويقٍ لمبادرة السلام العربية، بل ويباشر أيضاً في نسج علاقات مع إسرائيل بمستوياتٍ متفاوتة، قبل التوصّل إلى أي تسويةٍ عادلة، ولو نسبيّاً.
إن وضوح الرؤية هذا ضروري لأي نضال شعبي ضد التطبيع. فالموقف العربي في تدهور مستمر منذ اتفاقيات كامب ديفيد، وحرب الكويت وتقويض التضامن العربي، واتفاقيات أوسلو. ولا علاقة لهذا التدهور بالثورات العربية؛ فالأخيرة أوقفت هذا التدهور في الحقيقة عاماً كاملاً مع صعود الرأي العام العربي، وتصدّر الحراك الشعبيّ المشهد. وكانت المظاهرات أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة علامةً مهمة على الطريق، وكذلك التضامن المصريّ مع قطاع غزة. ولكن التدهور عاد إلى التسارع بعد الثورة المضادة.
وفي رأي كاتب هذا المقال، لا بد أن يلتقي النضال ضد نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، في النهاية، مع النضال الديمقراطي في المنطقة، وفي كل مكان في هذا العالم. ليس الشعب الفلسطيني “شعب الله المختار”، لكي يطلب تضامناً من الشعوب العربية، من دون إبداء تفهمٍ لقضايا هذه الشعوب. وقد أثبت تاريخ هذه المنطقة، منذ بداية القرن العشرين، أن قضيته متواشجة مع قضايا شعوب المنطقة.
* نقلاً عن: “العربي الجديد”
عذراً التعليقات مغلقة