تثير الإطلالات المتواترة لبشار الأسد، على وسائل الإعلام، ومضامين أحاديثه، أسئلة عن الرسائل التي يريد إيصالها، والطرف المقصود بهذه الرسائل، كما يكشف حديثه النزق والمتوتر عن خفايا، ربما لا يعلمها كثيرون، بخصوص مستقبل السلطة في سورية، وهي القضية الأكثر أهمية للأسد من سواها من قضايا سورية الملحّة والعاجلة.
قد يقول قائل إن وضع سورية لا يسرّ صديقا ولا عدوا، وبالتالي من الطبيعي أن شخصاً في موقع بشار أن يكون مهجوساً بمستقبل بلاده التي أنهكتها الحروب ومزّقتها الصراعات، وتتقاسمها مجموعة من الدول، وتجثم على أراضيها جيوش عديدة. ومن الطبيعي أن لا نرى بشار الأسد الذي بات مهمّشاً بدرجة كبيرة من حلفائه وخصومه على السواء مرتاحاً في لقاءاته الإعلامية. ولكن، منذ متى كانت مثل هذه الاعتبارات تشغل بال بشار، وهو المستعد لأقل من هذه الوضعية شرط بقائه في السلطة. وذلك ليس تحليلاً ولا تخمينا، بل هو واقع كشفته طريقة لقاءاته مع الرئيس الروسي بوتين والمرشد الإيراني خامنئي، وأكدته السلطات التي يتمتع بها قائد قاعدة حميميم الذي تولى عقد التسويات والتفاهمات مع الفصائل المسلحة، وأثبتته صولات قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، وجولاته على الأرض السورية، من دون حتى تكليف نفسه عناء إخبار الأسد بمخططاته وإستراتيجيته الفعلية في سورية.
لم يعد بشار الأسد يحلم حتى بنموذج التبعية الذي يمثله رئيس الشيشان، رمضان قادريوف، فهذا لديه على الأقل مكانة خاصة عند بوتين، كما أن الأخير لا يعترف بغيره فاعلاً سياسيا في الشيشان. ولعل النموذج الأكثر قرباً من الأسد “رئيسا” أبخازيا وأستونيا الجنوبية، الموظفان بدرجة واجهات لتبرير الاحتلال الروسي هذه المناطق، واللذان لا يعترف بهما، دبلوماسياً، سوى بشار الأسد، الذي يعاني من بطالةٍ على مستوى اللقاءات والمؤتمرات مع رؤساء الدول الأخرى وملوكها.
على الرغم من ذلك، هو قانع بهذا الدور الهامشي، ويعرف في قرارة نفسه أن “رئيساً” يظلله رئيس دولة أخرى بحمايته ويسيّر يومياته، ويتكفّل بمتابعة ملفات جمهوريته، لا يستحق مكانة أكبر من التي يمنحها له بوتين، وهو في الحقيقة ليس لديه أدنى اعتراض على ذلك كله، بدليل أنه تنازل عن البلد بأكمله لشركاتٍ يملكها طباخ الرئيس بوتين، ورهن مستقبل سورية عقودا مقبلة للسلطة الروسية. ولم يشكّل هذا الأمر أدنى حساسية له، في حين تقض مضجعه اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، والتي تشكّل مادة غضبه الأساسية في إطلالاته الإعلامية أخيرا؟
يعرف الجميع، بما فيهم المعارضة السورية نفسها، أن اجتماعات اللجنة الدستورية لا تختلف عن اتفاق مناطق خفض التصعيد سيئ الذكر، الغرض منها تقطيع الوقت وإلهاء العالم ومحاولة الإيحاء بأن روسيا تشتغل سياسةً في سورية. وواقع الأمر أن ذلك كله ليس سوى تكتيكات مكشوفة، غرضها تيئيس المعارضة والأطراف الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع السوري، ذلك أن روسيا صمّمت هذه اللجنة لتأتي مخرجاتها متوافقةً مع الرؤية الروسية للحل، بعد التفافها على قرار مجلس الأمن 2254 وتجييره لصالح خطتها في سورية.
وما دام الأمر على هذه الشاكلة، وما دام بشار قد تنازل لبوتين عن كامل حقوقه الدستورية والسياسية، لماذا إذاً يصوّب على الخطة الروسية، وفي هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا يرفض الاعتراف حتى بوفده الخاص إلى مباحثات اللجنة الدستورية، بعد أن أمضى حوالي السنتين، وهو يفاوض على كل اسم ضمن هذه اللجنة، حتى أن اللجنة تعطلت عن الانطلاق شهورا عديدة، نتيجة خلاف بشأن اسمين او ثلاثة في قائمة المجتمع المدني!
الواضح أن بشار الأسد، وعبر إطلالته الإعلامية أخيرا، يريد إيصال رسالة إلى شخص واحد، هو فلاديمير بوتين، ربما يريد من تلك الرسالة دفع بوتين إلى طلب لقائه، لينتهز بشار الفرصة للاستفسار عن أمورٍ أخبره بها قائد قاعدة حميميم، أو يستطيع إقناعه بالعدول عن قراراتٍ يجري التحضير لها في الكرملين بخصوص سورية، ذلك أن بوتين لا يلتقي الأسد، ولم يحصل أن التقاه، إلا إذا أراد إستخدامه في توصيل رسائل إلى خصومه الأميركيين، وأصدقائه في إيران وتركيا، لكن بوتين ختم زمن رسائله السورية، بعد توصله إلى تفاهماتٍ نهائيةٍ مع هذه الأطراف. وربما يريد بشار أيضاً إخبار بوتين أنه ما تزال لديه قدرة على إثبات وجوده السياسي، ولو بالتنكّر للوفد التفاوضي الذي يمثله في جنيف، واعتباره وفداً تطوعياً تطوّع عن طيب خاطر ليواجه المعارضة في مفاوضاتٍ سجاليةٍ بشأن الدستور السوري!
يكشف إصرار بشار على الظهور الإعلامي، ورفعه سقف انتقاداته مخرجات الخطة الروسية في سورية، من دون الجرأة عن انتقاد السياسات الروسية بشكل مباشر، وكذلك يكشف تجاهل الروس الرد على كلامه، والاستمرار بمخططهم من دون أي تعديلات، أن الأمور تسير باتجاهٍ يخشاه الأسد، وهو احتمال ذهابهم إلى إخراجه من السلطة. وكان لافتا ما أوردته الصحافة الروسية عن انزعاجها مما اعتبرتها “أحاديث صاخبة” لبشار، بعد أن ذكّرته بأن كل ما تحقّق في سورية، على صعيد استعادة الأرض من المعارضة، هو من صنع روسيا، وليس نتاج بطولاته العسكرية وحنكته السياسية.
يعرف بشار الأسد أن لروسيا مشروعا عالمياً، وأنها مستعدة لإزاحة أي عقبة تقف في طريق هذا المشروع، وانه بعد قبوله كامل شروط اللعبة الروسية، لم يعد يشكل أكثر من براز قط على جانب الطريق.
عذراً التعليقات مغلقة