الشهوة الافتراضية

عماد المصري12 سبتمبر 2019آخر تحديث :
عماد المصري

كلما زدت بكلامه إعجاباً كلما ابتعد ونأى، ذلك على مواقع التواصل الإجتماعي لفئة محددة من البشر الشرهين للنجومية الافتراضية، حتى لو كان ما يقدمونه مجرد عبارات لا تحمل جوهراً ولا تتضمن تأثيراً حسياً أو أدبياً ولا حتى علمياً يلامس نفس أو عقل القارئ، وربما كان الإعجاب الذي تضعه على كلامه مجرد نوع من المجاملة بسبب الصداقة الافتراضية التي تربطك به، أو نوعاً من الدعم المعنوي للمكانة التي يسعى إلى بلوغها، ولكنه ومع أنه لم يقدم لك أي قيمة إضافية في كتاباته، إلا أن زيادة إعجابك به يدفعه لمزيد من الابتعاد عنك وعن أفكارك التي تنشرها كنوع من تبادل التواصل الفكري بينكما، ويستمر في الابتعاد عن الأصدقاء المفترضين إلى أن يصبح غريباً عنهم وهو بينهم.

ولو قلنا إنه لا يقرأ ما يكتبه غيره من الأصدقاء لكان ذلك انتقاصاً صريحاً من علمه ووعيه، لأنه ومن المفترض أنه يقرأ ويتصفح صفحات البقية وهذا هو جوهر الصداقة على مواقع التواصل، وإن قلنا إنه يقرأ ويتصفح صفحات الأصدقاء ولا يشاركهم بأرآئه ولا حتى بالاعجاب أو الغضب فأيضاً نحن نوجه إليه إتهاماً صريحاً بالتعالي والغرور وهذا ما لا يفعله أهل العلم والفهم ولا القادة الذين يدركون معنى التواضع وضرورة التواصل مع الآخرين ليثبتوا ذواتهم من خلال التطبيق الفعلي لمعنى المعرفة والتواضع الذي يدل على النضوج والثقة بالنفس إضافة إلى المعرفة التي ترفض الشكليات الفارغة.

ومع كل هذا فإنك ترى هذه الفئة من الناس تدأب على تكرار تلقيب نفسها بألقاب العلماء والفلاسفة والمفكرين، مع أن العلماء والفلاسفة والمفكرين لم يطلقوا يوماً على أنفسهم تلك الألقاب، بل كانت الناس تلقبهم بذلك بسبب تأثرهم بعلمهم وفكرهم، وبسبب التأثير والتغيير الذي طرأ على المجتمعات بسبب فكرهم.

قد يلجأ المتأمل بحال هؤلاء إلى خلق المبررات المنطقية لأمثالهم، خاصة وأن مواقع التواصل الإجتماعي تعج بالمختلفين من أعلى إلى أدنى مستوى، فيصل بتأمله إلى أنه ليس من السهل التواصل مع الجميع أو مجاراة مستوياتهم المختلفة!

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا عن الأقران المتشابهين بالمستوى التعليمي على أدنى مستوى؟ لماذا لم يجد أولئك المنعزلون على أنفسهم فرصة لتبادل الآراء أو حتى للنقد!؟

وإذا تجاوزنا تلك المبررات كلها وأمعنا النظر بشخصية معينة، ممن يحاولون تكريس فكرة أنهم مفكرون أو علماء أو فلاسفة، أي مميزون عن البقية حتى بين الأقران، سنكتشف ربما أنهم مصابون بحالات مرضية نرجسية تصل إلى جنون العظمة، إن لم تكن أنانية أو عقدة نقص يحاولون إخفائها أو التغطية عليها من خلال النقيض الواضح وهي أنهم أعلى مرتبة من الآخرين.

وعقدة النقص هذه ربما مصدرها البيئة التي نشؤوا بها أو الحالة الاجتماعية للعائلة أثناء الصغر، وإذا أحسنا الظن فهي الرغبة العارمة بالظهور مهما كان الثمن حتى لو كان السبيل المتبع مغامرة مجنونة من صاحبها، إذا لم ينجح بها فستودي به إلى أسفلين ويتحول إلى ورقة محروقة في المجتمع بعد كل العناء الذي بذله لتحقيق شغفه الدفين. سيما أن منهم من بالفعل من قام بصياغة وكتابة بعض الكتب التجارية المبنية على إستقراءات لفلاسفة أو علماء حقيقين ليربط اسمه الجديد (كفيلسوف أو مفكر) باسم العمالقة الكبار، لأنك لو قرأت جزءاً واحداً من تلك الكتب المستحدثة ستكتشف بأن ما قام به بالفعل هو مجرد إعادة صياغة لكتب قيمة أدبية كانت أم فلسفية.

وتتساءل بعد قراءتك تلك ما الذي أضافه لك ذلك الفيلسوف أو الأديب الفذ سوى تكرار ما هو موجود بالأصل وبطريقة قزمت الفكر الحقيقي لمستوى أحلامه الصغيرة!

بالطبع هذه ليست دعوة ضد الكتابة لأن الكتابة علم تراكمي مفيد بكل حالاته، ولكن الاستغراب هو من رغبة الكاتب المحدث بالظهور تحت لقب العالم أو الفيلسوف مع أنه كما كررنا بأن العالم الواثق من نفسه يستحيل أن يلقب نفسه بأي لقب يدعو للفخر أو الاعتزاز.

ومن جهة أخرى وفي العالم الواقعي وبعيداً عن العملقة الوهمية التي ترسخها مواقع التواصل الافتراضي، ومع أبسط الأمثلة اليومية فإنك إذا بادرت شخصاً عادياً لا يفهم في علوم الفلسفة ولا التنظير، لو أنك بادرته بالإعجاب بأبسط الأعمال التي يقوم بها، أو لو أظهرت له الود والتقرب فستجده يقطر خجلاً وتواضعاً وسيبادرك بحب حقيقي ورغبة بتوطيد الصداقة والأخوة الإنسانية، وسيكبر وتكبر قيمة كل منكما في قلب الآخر حتى لو كان سباكاً أو عامل نظافة (مع احترام كل المهن). وستضفي تلك الصداقة على حياتك معان كثيرة وملموسة، معان توثقها وتدعمها التعاملات اليومية، وذلك ما لا يتوفر على مواقع التواصل إلا نادراً، ولن تتفاجأ بأن ما يقدمه لك جارك السباك المتواضع من أثر إيجابي على حياتك يخلو من أي إعجاب أو غرور، بل أثر إيجابي مفعم بالتواضع والرقي والاحترام المتبادل.

ومن حيث المنطق فإنك إن لم تحظَ بضربة حظ جنونية على مواقع التواصل الاجتماعي (الافتراضي) فإن فرصتك بأن تصبح نجماً كنجوم الشاشات هي فرصة شبه ميتة، فمهما أطلقت على نفسك من ألقاب وحركات إعلامية لتسحر بها عيون القراء والمتابعين على صفحتك، والذين من المفترض أنهم أصدقاؤك الذين يتوجب عليك مشاركتهم أفكارهم لتستمر الصداقة، وليس صناعة كرسي ملكي تتربع عليه ليلتفوا حوله وحولك ليشبعوا رغباتك بكلمات الإطراء والإعجاب مهما هرفت، فإنك بذلك تخسر على كل الأصعدة، فلا أنت حققت النجومية التي تحلم بها، ولا أنت رسخت المفهوم الحقيقي للعالم أو الأديب أو الفيلسوف، ولا أنت حافظت على الصداقة التي دامت بينك وبين (أصدقائك المفترضين) لسنين طويلة!؟

كل ما فعلته هو الغرق بحالة وهمية كانت يوماً ما حلماً أعوج، استمر بالانتفاخ حتى انفجر بك، فدفع بمن هم حولك للابتعاد بحثاً عن صديق جديد أكثر تواضعاً مهما بلغ من العلم، ليسعدوا بصحبته ويقتطفوا من عمله (كبيراً كان أم صغيراً) ما يضيف لحياتهم قيمة معينة، حتى وإن كانت بسمة مؤقتة من رجل ساخر.

إن القوة الشهوانية إذا سيطرت على العقل تحول الإنسان عبداً لشهوته، فتسلب منه الحكمة والاتزان، ويصبح مقلداً مكرراً لا قيمة له، وتجعله سريع الغضب إذا ما ناله أحدهم بانتقاد محق، وتسوق المرء وراء الشره الأجوف بغية التملك والاستحواذ حتى على حساب قيمه ومبادئه، فلا يختلف بذلك عن بقية المخلوقات إلا في الشكل والملبس والتظاهر الشكلي بالرقي الواهي الخالي من أي جوهر أو قيمة.

وقد قال أفلاطون عن القوة الشهوانية للنفس: من غلبت عليه الشهوانية، وكانت هي غرضه وأكثر همه، فقياسه قياس الخنزير؛ ومن غلبت عليه الغضبية، فقياسه قياس الكلب؛ ومن كان الأغلب عليه قوة النفس العقلية، وكان أكثر أدبه الفكر والتمييز ومعرفة حقائق الأشياء والبحث عن غوامض العلم، كان إنسانا فاضلا قريب الشبه من الباري، لأن الأشياء التي نجدها للباري، هي الحكمة والقدرة والعدل والخير والجميل والحق، وقد يمكن للإنسان أن يدبّر نفسه بهذه الحيلة، حسب ما في طاقة الإنسان، فيكون حكيماً، عادلاً، جواداً، خيِّراً، يؤثر الحق والجميل.

فهل أنت أعظم من أفلاطون؟

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

    عاجل