بعد إندلاع الثورة المباركة سألت بنوع من السذاجة بعض مسؤولي الإخوان المسلمين لماذا لا يعملون مع الشيخ العرعور يداً بيد؟
كان الجواب الذي أتاني غير واضح بالنسبة لي، معرفتي بالواقع السوري يومها كانت أقل مما عرفنا خلال السنين التالية.
وبعد هذه الثورة المباركة إزداد عدد معارفي وأصدقائي من السوريين العاملين وخلال زياراتي الكثيرة لتركيا لاحظت ظاهرة وهي أنه توجد أزمة ثقة كبيرة عند السوريين، ويومها كتبت منشورات حول هذا الموضوع. أزمة ثقة كبيرة بين بعضهم. في البداية رديت هذا إلى ما فعله النظام خلال عقود من قمع وإرهاب ومراقبة عبر أجهزة المخابرات والمخبرين.
نعم هناك شيء من هذا، وجزء كبير، لكن هذا لا يكفي لتفسير كل الظاهرة. فكثير من السوريين كان متواطئاً مع السلطة أو جزءا منها، أو غنيا لدرجة عدم الخوف منها، ثم أن هناك كثيرين كانوا يعيشون في الخارج ولم يكونوا تحت السيطرة المباشرة للحكم السوري وأجهزته.
مع الأسف أن أزمة الثقة هذه لم تكن من صنف الحذر الإيجابي المفيد الذي يقي بعض الشرور. فقد وصل إلى قيادة المعارضة أسوأ الناس وإستطاعت الدول شراء ولاء وتبعية عدد كبير جدا من الأشخاص، ومن الفصائل والقوى السياسية. ملثمون أجانب ومحاربون غرباء إستطاعوا الإنتشار في أنحاء البلد، ليس دائما بالقوة إنما بإسم الدين أحيانا وبحجج أخرى. كان يكفي لشخص أن يظهر على الفضائيات العربية ويجعجع ويشتم النظام كي ينال ثقة الناس.
كيف لهؤلاء السوريين الذين يشكون في بعضهم البعض في كل شيء ولا يقبلون بسهولة برأي مخالف ولا يؤيدون بسهولة موقف أحد منهم وفيهم كما يقال، كيف والوا وبايعوا الغريب وغير المعروف أو وثقوا عندما كان يجب عليهم ألا يثقوا؟؟!
الدول الأجنبية وخاصة الغربية وثق بها الثوار ووثقوا بدبلوماسييها وإستطاعت منظمات غربية الحصول على مسح معلوماتي شامل عبر ثقة كثير من السوريين بها.
من المؤكد أن التمويل لعب دورا لكن برأيي المسألة أعمق. ففي العقلية العربية والسورية هناك نوع من الإعجاب بالغريب والأجنبي. مقاتلو القاعدة وداعش الغرباء حصلوا على الإعجاب المميز، خاصة لو كانت عملية إستعراضية إنغماسية مصورة وتم تجاهل بطولات خارقة لشباب سوريين مجهولين.
في البداية تساءلت كثيرا عن سبب تعدد الفصائل الإسلامية لأكتشف خلال السنين أنه يوجد حذر مناطقي وأنه أيضا توجد إختلافات عقائدية هائلة بين هذه الفصائل، تتعدد بين اختلاف الخلفيات والمرجعيات، من الصوفية إلى السلفية بأصنافها وتنوعاتها. عندما نعرف وجود الفجوة الكبيرة بين الطوائف الدينية المتعددة ونكتشف الخلافات الدينية العلمانية نصل إلى صورة عجيبة غريبة في العلاقات بين السوريين تؤثر على مسألة الثقة.
بعض قيادات المعارضة كانوا في السجون لسنين طويلة وهذا بالتأكيد أثر على نفسيتهم وعلى أسلوبهم في بناء ثقة بمحيطهم السياسي والشعبي.
وبعد الإرهاصات والمآسي والآلام التي حصلت كان هناك خياران أمام السوريين في الثورة. أن تقوى الثقة بين بعضهم البعض لتنصهر العواطف والأفكار أو أن يزداد الحذر وضعف الثقة.
وإذا عرفنا عمق الخلافات الإيديولوجية وإذا أخذنا بعين الإعتبار أخطاء المعارضة وخيانات بعض الشخصيات وتخاذل بعض القوى وفضائح بعض الشيوخ المتواطئين أو المتراخين مع الطاغية فسنكتشف حزينين أن ضعف الثقة هو الذي في إزدياد. أصبحنا من التخوين والرفض أقرب منهما من الإنصهار والتفاهم.
وبدل التركيز على العمل المشترك والإنصهار في حد أدنى من نقاط مشتركة للعيش المشترك بدأت تتفاقم الخلافات بين التيارات المتناحرة والتي تتهم بعضها بكل الصفات.
لا أريد المجاملة ولابيع العواطف والخطابات فأقول إنه يبدو لي أن المسألة الجذرية فكرية إجتماعية ونفسية وهي ليست ظرفية إنما ثقافية عميقة. وصلنا إلى مرحلة أنك فيها عند الحديث مع من يدعي التدين الإسلامي والإلتزام الشديد تصف له روعة القرآن الكريم وعظمته فينظر إليك بطرف عينه، يشك بأنك قرآني.
ولا داع للحديث عن حملة الأفكار القومية واليسار والعلمانية والإلحاد وشكوكهم وحقد بعضهم الإيديولوجي.
ولا داع للحديث عن محتالي الفكر ولا عن محتالي المال والأعمال التجارية والغشاشين ولا عن مدعي العلم والفهم والفهلوية.
كتبت منذ يومين الآية الكريمة القائلة “إن الله لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فكتب لي أحد الأصدقاء ينصحني أنه كي أفهم الآية علي أن أقرأ كتاباً لداعية ومفكر هندي عاش في القرن العشرين، رحمه الله، وكي لا يفهم كلامي بشكل سيء أنا لا أقلل أبدا من مكانة الداعية الكبير إنما أشير إلى ضعف ثقة مواطني وإبن بلدي ووجعي برأيي وبعلمي وبفهمي.
الحل سهل، ولكن من السهل الصعب، ولاأقول الممتنع، لأنه يحتاج عدة عمليات متوازية وعدة عمليات متتالية. الوعي والشفافية والصدق والموضوعية والعقلانية والمعرفة والإحترام وحرية الرأي والفكر ووضع آليات تمثيل ديمقراطي حقيقي، وتكوين نخب دينية وفكرية مؤهلة لتكون قدوة، كلها من أساسيات هذه العمليات.
وربما أصعب عملية هي تلك العملية النفسية الموازية والتي تقوم على الثقة المتبادلة حتى لو كانت حذرة ومحسوبة.
ربما هذا نوع من أنواع التعجيز، لكن اليوم وفي وضعنا الحالي الذي نرى خطورته ومأساويته هل هناك خيار آخر كي يستمر وطن إسمه سورية يستطيع الإنسان أن يعش فيه بحرية وكرامة وأمان؟
عذراً التعليقات مغلقة