لقد رحل متأثراً بجروحه، تلك التي كنا نعرفها وتلك التي لم يكن لنا علمٌ بها أيضاً، جملة على بساطتها تحمل ضمنها معان أعمق من اختصارها في وضع جسدي محض، ذلك أن الشهيد قضى في معركة خاضها لا بحضوره الفيزيائي فحسب، وإنما بحواس تتجاوز الخمس، وإيمان وقضية حمل شعلتها نيابة عن المؤمنين بها كلهم.
مع التنويه إلى أن فرض الكفاية هنا غير كافٍ، فمن المفترض إذا كان أحدنا قد آمن بقضية ما، أن يتحمل مغبة الدفاع عنها بنفسه لا أن يوكل تلك المهمة لآخرين -مع اختلاف أشكال الدفاع طبعاً-.
قضى “عبد الباسط الساروت” في معركة لم يتزحزح قيد أنملة عن الإيمان بها، لم يتراجع ولم يبع فيها مبدأه أو يشتري سواه، في سوق عرض فيه الجميع للبيع أو المقايضة وربما فعل ذلك كثيرون منا، ذلك أن الثمن الذي اتضح أن علينا دفعه مقابل الحرية، كان أثمن من أن يستطيع أغلبنا أن يدفعه.
وإذا أردنا أن نقوم بحساب بسيط وسطحي فعلينا أن نتساءل كم منا يستطيع أن يبذل روحه مقابل فكرة، أو هدف أو حتى مكسب مادي، ومن البديهي أن تصبح الأشياء كلها رخيصة وغير ذات معنى أمام أرواحنا في غالب الأمر.
ربما لهذا قضى متأثراً بجروحه المعنوية أكثر من الجسدية منها، لقد رحل مع غيره ممن بذلوا أرواحهم فداء لقضيتهم مثخنين بخياناتنا أو تخاذلنا أوجبننا على أقل تقدير.
استشهاد “الساروت” لم يكن حدثاً عادياً ولن يكون، لقد شكل انعطافة كبيرة، لا في مسار الأحداث هذه المرة وإنما في شكل الزاوية التي كنا نرى من خلالها أنفسنا، لقد عرّى فوقيتنا وجهلنا بالمعركة الحقيقية.
ماذا لو أردنا أن نرى العالم من زاوية “الساروت” ورفاقه هل نستطيع أن ندرك كم من النعوت السلبية والإقصائية التي كان من الممكن أن ينعتوننا بها، ولماذا قررنا أن شكل النضال الذي اخترناه هو الأكثر صحة وفعالية وبدأنا بانتقاد طريقتهم في الحصول على الحرية التي يريدون، إلا إذا كنا نضمر في لا وعينا فرض شكل الحرية التي أردناها نحن دائماً عليهم.
لقد دأب المثقف على نعت حملة السلاح بنعوت مسيئة على الدوام، بطريقة تعكس أن تقبل الآخر أو حتى التزام الإيجابية التي يدعيها غير حقيقي في باطن الأمور، معتمداً بذلك اجتزاء الأشياء من سياقها ومحاسبة الفئات التي شاركت في الثورة على اختلاف أطيافها وفقاً لمقياس واحد وعام، لا يصلح إلا لشريحة معينة غير موجودة على أرض الواقع، وإذا كانت فهي لا تشكل نسبة كبيرة.
وإذا ما افترضنا أن ما يدعيه صحيح، فإن أقل مسؤولية قد يتحملها هي ارتكاب الجرم بالامتناع عن الفعل، ذلك أن كيل الاتهامات الذي أسبغه على الآخر بالجهل والتخلف وعسكرة الثورة وضياع الحقوق، كان سببه التراجع عن النضال في سبيل ما يريد أولاً، وانكفاءه عن دوره التاريخي في قيادة وتوعية الشعوب.
فالنخبة –كما تدعي- التي قبلت بانحسار دورها تاركة الساحة للغوغاء وفقاً لمفهومها لن يحق لها المطالبة بحقوقها التي انتزعها آخرون، ولا يحق لها من باب أولى الجلوس في زاوية أحد المقاهي واعتماد منهج التنظير وتصيد أخطاء الآخرين وانتقادها.
إن مسألة احتكار الوعي وإنكاره على الآخرين أو التخوين وبيع صكوك الوطنية، أصبح سمة عامة لدى الغالبية العظمى منا، لكنها في الحقيقة لا توحي إلا بمحاولة الاختباء والتخفي عن عجزنا الواضح من تقديم التضحيات التي استرخصها غيرنا، ذلك أننا عجزنا عن الاندماج في صفوف الثوار الحقيقيين الذين وضعوا أرواحهم على كفهم ومشوا في حقول الألغام التي حصدتهم واحداً تلو الآخر.
إن مفترق الطرق الذي يواجهنا الآن يحيلنا إلى ضرورة حتمية تتمثل في تعزيز مفهوم الرمز وإدراك أهميته، فالشعوب في حالة اللاتنظيم التي تعيشها، أشد ما تكون في حاجة إلى رمز يستطيع أن يكون مشعلاً يجمع الناس من حوله، وربما انتبه نظام الأسد إلى هذه النقطة قبلنا بكثير، فبدأ باستهدافهم تباعاً كي يقضي على الشباب الحقيقيين الذين يمثلون سوريا، ويبقي على “داعش” ومثيلاتها كي تظهر ممثلاً وحيداً عن انتفاضة قمعها بكل ما أوتي من قوة وبطش.
فاستشهاد “رائد الفارس” و”خالد العيسى” و”الساروت” أخيراً وليس آخراً لم يكن وليد الصدفة وحدها في غالب الأمر، كونهم يحصلون على إجماع من كل أطياف الثورة العلماني منها والمتدين، ولا يستطيع أحد التشكيك في وطنيتهم أو ولائهم ولأنهم قادرين على جمع كثير من المؤيدين لنهجهم.
لماذا تأخر النصر إذاً؟ السؤال الذي يطرحه كثير من السوريين منذ بداية الثورة، كيف صنعت منا المقاهي مثقفين ومنظرين ومتخاذلين أو جبناء، ولماذا اعتمدنا آليه الهروب إلى الأمام متناسين أننا تراجعنا تاركين آمامنا دروعاً بشرية تصطادها آلة القتل.
عذراً التعليقات مغلقة