في زمن قياسي.. استطاع “عبد الباسط الساروت” الشاب الذي لم يتجاوز عمره سبعة وعشرين عاماً عند استشهاده، أن يتحول إلى أبرز شخصيات الثورة السورية وأحد أهم رموزها، عددٌ من المحطات الهامة في حياة الساروت التي كنتُ شاهداً على جزءٍ منها وعايشتها، جعلتني أفهم كيف أضحى هذا الشاب النبيل مرآة وأيقونة للثورة، غصّت الحناجر حزناً عليها وبكى فقدها ملايين السوريين في شتى أنحاء العالم.
ولد عبد الباسط في العام 1992 في مدينة حمص، تحديداً في حي البياضة، أحد أحيائها الشعبية التي بقيت محافظةً على الروابط الاجتماعية ومبادئ النخوة والشهامة ورفض الظلم، والتي شكّلت وقوداً لثورة السوريين في بداياتها..
لم تتح له الظروف إكمال تعليمه، لكنه شقّ طريق نجاحه الشخصي مبكراً في عالم الرياضة، إذ استطاع أن يكون حارس المرمى الأميز لنادي الكرامة الحمصي (فئة الشباب)، والذي كان يتمتع بشعبية واسعة آنذاك، ما أهّله ليصبح حارس منتخب شباب سوريا، ولتبدأ آفاق الشهرة والنجاح تُفتح على مصراعيها للشاب الذي لم يتجاوز عمره في ذلك الوقت تسعة عشر عاما.
منتصف آذار عام ألفين وأحد عشر كان السوريون على موعد تاريخي مع ثورة الحرية والكرامة ضد نظام الأسد، وكانت حمص عاصمتها، وشكّل أحرارها كباسط شعلةً ثوريّة لم يعد بإمكان أحدٍ أن يطفئها، انتشرت نقاط التظاهر فيها سريعاً، عمّت المظاهرات والمواجهات مع الأمن كل مكان، وبات كل شابّ أمام قرارٍ مصيري باختيار مكانه، لم يفكّر باسط طويلاً ولم تسمح له روحه المتمردة وشجاعته بالتردد، ووجد نفسه منذ الصرخة الأولى منتصراً لثورة المظلومين ضد نظام القمع الدموي الذي حكم بالحديد والنار عقودا طويلة.
تمتّع الساروت بكاريزما فطرية جعلته قائداً للتظاهرات وهاتفاً في جموع المتظاهرين دون خوف منذ الجمعة الأولى، إذ لم يكن ليرضي حماسته أن يكون متظاهراً فقط في وقتٍ كان مجرد التظاهر إقداماً بطوليّاً على الموت، حيث كشف عن وجهه معتلياً الأكتاف بهويته الحقيقية متحدياً كل أجهزة النظام وأذرعه الأمنية، وبسرعةٍ كبيرة جذب الشاب النحيل الأسمر الأنظار بحركاته المحفّزة وصوتٍ بُحّ من كثرة الهتاف، ليساهم بتوسيع رقعة التظاهر متنقلاً بين حارات حمص رغم المخاطر الكبيرة للتنقل بينها، وليصبح أحد أبرز المطلوبين لميليشيا النظام التي خصصت مبالغ طائلة لمن يساعدها في إلقاء القبض عليه.
بدأت مظاهرات الثورة تتزيّن بصبغةٍ فنية جماهيرية وتحاول لفت أنظار العالم إليها بالصور واللافتات والكلمات التي تصنع من الجراح أهزوجةً، ومن آهاتها قصيدة، وبدأ الساروت بأداء العديد من الأغاني والهتافات الثورية التي ترسم الواقع، تحيي الثوار، تحلم بالنصر، تستشرف مآل الشهادة، وترحب بها قبل قدومها.
بـ”يا وطنا وياغالي” بدأ الساروت الإنشاد ملقياً تحيته الخالدة على الوطن، ثم أخبر العالم كله بأنه “حانن للحرية حانن” وتحدى آلة القتل واستهزأ بها بـ “طيب اذا بنرجع”، ثم وأمام حضرة الموت الذي اختطف منه شقيقه الأكبر “وليد” في العام 2011 بمداهمة استهدفته مع عدد من رفاقه، غنى “جنة جنة”، وعندما غمره الحنين إلى رفاقٍ يرتقون يوميا شهداء في المظاهرات السلمية ،غنى”حلمي الشهادة يابا”، وأخبر أمه أنه اختار طريق الكرامة بـ”يا يما أنا طالع” وأوصاها بالصبر إن كتبت له الشهادة فصدح قلبه بـ”يا يما…بثوب جديد”، وغيرها الكثير من الأناشيد الخالدة التي أدّاها في تلك الفترة، وباتت تشكل إرثاً ساروتياً خالداً وذاكرةً ثمينةً لثورة وطن.
انتهى العام 2011 بأجمل صورة لثورة سلمية تحدّت فيها الكلمة صوت الرصاص، وأرعبت حنجرة باسط خلالها جيشاً مدججاً بالسلاح، ووصل الساروت فيها إلى درجةٍ من الجماهيرية المذهلة، التي جعلت حارات حمص الثائرة تردد كثيراً “باسط حبيبي باسط..باسط حبيبي”، وبلغ من التأثير مبلغاً جعل مظاهرات حمص تلتهب حماساً بمجرد وصوله إلى أيٍّ منها.
في أوائل العام 2012 ومع إمعان آلة النظام العسكرية في القتل والاعتقالات دون أي رادع، وبعد ارتكابها مطلع هذا العام عدة مجازر طائفية بحق المدنيين في عدة أحياء، كالسبيل وكرم الزيتون والرفاعي ودير بعلبة وغيرها، انضم الساروت الذي شكّل مرآة للثورة وتحولاتها، إلى الكفاح المسلح، الذي بات خياراً لا مفر منه، وشكل مجموعة مسلحة من رفاقه سيرتبط اسمها باسمه دائما فيما بعد، أطلق عليها اسم “شهداء البياضة”.
تابع النظام اجتياحه لأحياء حمص وصولاً إلى حي البياضة مسقط رأس عبد الباسط، وأحكم النظام قبضته عليه وهجر أهله بشكل كامل في شهر نيسان من العام 2012، ثم أُحكم الحصار على من تبقى من ثوار حمص في المدينة في حزيران من العام ذاته، ليحاصر بذاك بضعة آلاف من بينهم الساروت، في حصار حمص الشهير الذي خاض فيه الساروت معارك ملحمية.
لم يتوقّف الساروت عن الإنشاد حتى بعد حمله السلاح دفاعاً عن ثورته ووطنه، ولم يكن يضيع أي فرصة أو جلسةٍ دون أن يشدو فيها بالهتافات والكلمات التي ترفع من معنويات المقاتلين وتحضهم على الصمود والاستمرار في طريق الثورة، وكما أحبّه متظاهرو حمص، أحبّه المقاتلون في كتيبته والكتائب الأخرى، ولا أذكر أحداً من القيادات العسكرية امتلك ولاء منقطع النظير من المقاتلين معه كتلك التي امتلكها الساروت لعدة أسباب، لعل من أبرزها شخصيّته العفويّة المتواضعة، وشجاعته المميزة، إذ لم يشارك في معركةٍ إلا وكان أول اقتحامييها.
بخضوع ماتبقى من أحياء حمص الثائرة للحصار بات الهاجس الوحيد لجميع الثوار داخل الحصار وخارجه كسر الطوق الذي كان يضم داخله بضعة آلاف من المقاتلين ومئات العوائل من المدنيين، ليبدأ باسط بالتجهيز فوراً ومنذ اليوم الأول لعمليّة عسكرية من داخل الحصار سيكون محورها حي البياضة المحتل من قبل مليشيا النظام، والتي ستكون أول معركة ضمن سلسلة معارك شارك فيها باسط وكتيبته على مدى عامين بهدف كسر الحصار، سنتحدث عنها في الجزء القادم من هذه السلسلة.
… يتبع
عذراً التعليقات مغلقة