كي يخرج الكلام من خانات التنظير والتحشيد والتثاقف والمزاودة، لا بدّ من الاعتراف أولاً بمخاوف الناس، المخاوف التي ربطت ألسنتنا جميعاً -إلا القلائل- عقوداً طويلة، إلى حينٍ تمكَّن البعض فيه من تجاوز خوفه دافعاً ثمناً باهظاً مضحياً بحياته واستقراره، وظلّ البعض الآخر على خوفه وقلقه من غد لم يستطع المغامرة كي يتلمس معالمه.
وحقّنا في الخوف مشروع لا يساوم عليه أحد، لأننا عشنا جميعاً في ظلّ الخوف وكبرنا في مزرعة الخوف، ولأننا شهدنا القمع بأعيننا، ورأينا وعايشنا أمثولات وفزاعات أقل أثرٍ يمكن أن تتركه فينا قتل النزعة في مخيلتنا نحو الاعتراض أو الرفض، بل قتل مجرد التفكير بارتكاب مثل تلك “الآثام”، حتى صار الحديث بأقل الأمور صلة بما تقترفه السلطة شبحاً يلاحقنا حتى فراش النوم، فكيف لا يخاف الخائفون؟ وكيف لا يتمكن الخوف من قلوبهم حَدَّ يقينهم أن ثمة مَخْبرين على أكتافهم يحصون أنفاسهم؟
لكن بعيداً عن الخائفين، ثمة أصوات شغلها الشاغل أن تتزلف وتتملق وتُصَلِّي ليل نهار كي تتقرب من حاشية السلطة، تفعل كل ما بوسعها كي تنال رضاها، ولا تمل المنافحة عنها ومنافقتها، فتجدها -متبرعة وبالمجان ودون أن يُطْلَبَ منها- تلعب دور السلطة وتنتحل شخصيتها، زعماً منها أنها إنما تمارس دوراً “وطنياً”، فتتقيأ حقدها في وجه كل من يشير إلى خلل أو يكشف عيباً أو يسلط الضوء على أي فساد صغر أو كبر في أداء السلطة وممارساتها، وما أكثرها.
لذلك نفروا من “دقيقة” “سامر رضوان”، وحاولوا تشويهها، ليس لالتباس أو شك في ما عرضته”الدقيقة” -لأنهم يعلمون علم اليقين أن هذه “الدقيقة” ما هي إلا نقطة في بحر الفساد والإفساد الذي اقترفته السلطة على مدى عقود حرمت أجيالاً متتالية من مجرد استنشاق هواء نقي- بل لأنهم تلمَّسوا عجزهم وتقاعسهم وتواطؤهم وقلة حيلتهم، لأن “الدقيقة” كانت مرآة صادقة ما إن نظروا فيها حتى بهتت وجوههم وزاغت أبصارهم فأعياهم النطق إلا عن هوىً ونفاق، لأن “الدقيقة” أسمعتهم صدى صمتهم، فَصَمُّوا آذانهم، وأغمضوا عيونهم، وأطلقوا لألسنتهم عنان السبّ والشتم والقذف والإدانة والتخوين، وهي بضاعة اعتدناها حَدَّ الألفة، وهي أساليب تدور في فلك التنمر الذي يعكس انهزام هؤلاء أمام ذواتهم، التنمر الذي يمارسونه في محاولة لإقناع السلطة القامعة أنهم خط دفاعها الأول، التنمر الذي يمارسونه في محاولة لتقديم أنفسهم كطرف آخر لمن يعارض السلطة في حين لا تراهم المعارضة نِدّاً أو حتى خصماً لأنهم في مقلب المسحوقين المقهورين المقموعين ولأن السلطة تذيقهم ذات العسف وذات المظالم وتمارس عليهم ذات التخويف، التنمر الذي بات جريمة موصوفة ومكتملة الأركان تعاقب عليها قوانين كل الدول.
وإذا كانت “دقيقة” “سامر رضوان” وحدها شَدَّتْ عَصَبَ “الصَّمْتِ” إلى هذا الحد من العدائية والانتقام لدى الموتورين، فكيف لو أن “الماجري” جَسَّدَ لهم -على سبيل المثال لا الحصر- رواية “فواز حداد” “السوريون الأعداء” أو أن “الماجري” فتح في وجوههم “قوقعة” “مصطفى خليفة” ؟ بماذا كانوا سيتلفظون؟ وأي انتقام كانوا سينتقمون؟ وهل كان عصب الصمت سيتحمل الشَّدَّ حينها؟ أم كان سينقطع؟
عذراً التعليقات مغلقة