مجدي شلش
كل ما يتقرب به لوجه الله مع إحسان النية عبادة يثاب عليها المسلم، سواء أكانت من العبادات الخالصة – أي المعني العبادي هو المقصود الأصلي – التي تسمى بالعبادات المحضة، من صلاة وصيام وزكاة وحج، أو أي عمل يقوم به الإنسان مع نفسه من مذاكرة أو تحصيل علم أو عمل يقتات منه، أو مع زوجه من حب أو إكرام ومودة وسكينة، أو مع الأولاد من تربية ورعاية وتعهد، أو مع الجيران من حسن مجاورة وصدقة.
كل هذا وغيره عبادة لله سبحانه وتعالى يتقرب بها العبد إلى مولاه، لكن شرط العبادة غير المحضة النية، لأن كثيراً من الناس يفعل هذه الأمور على أنها من العادات وليست من العبادات، فلا يكون لها ثواب، لأن شرط الثواب نية التقرب إلى اله سبحانه وتعالى والمصطفى – صلي الله عليه وسلم – يقول إنما الأعمال بالنيات….” والسادة العلماء قالوا: النية تقلب العادة إلى عبادة.
صحيح أن الأعمال التي شرعها الله سبحانه وتعالى كلها لها مقاصد وأهداف، وأيضاً لها أحكام شرعية تتعلق بحقيقتها وصحتها من شروط وأركان وضوابط، سواء في العبادات أو المعاملات، لكن القصد من الكلام هنا الاقتصار على العبادات المحضة فحسب للأسباب التالية:
أولاً: إنها لما كانت عبادات محضة وخالصة ظن البعض أنه لا مقاصد لها، أو أن أهدافها محدودة ومقصورة على التعبد فحسب، فهناك قاعدة تقول إن الأصل في العبادات التعبد من دون الالتفات إلى الحكم والمقاصد والأهداف، والأصل في المعاملات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد.
من هنا ضيق البعض مقاصد وأهداف العبادات المحضة ولم يتكلم عن أسرارها وحكمها ومقاصدها، لكن القاعدة وإن كانت صحيحة إلا أن لها مجال آخر ألا وهو التفرقة بين الأحكام التي يقاس عليها، لما لها من علل وأوصاف واضحة منضبطة ينتقل الحكم بواسطتها إلى غيرها، وبين الأحكام التي لها حكم ومقاصد، لكن الأحكام لا تنتقل إلى غيرها من الصور التي لا حكم لها، لأن الوصف فيها وإن كان يشتمل على أسرار ومعان وأهداف ومقاصد إلا إنه وصف قاصر على محله فحسب.
ومن هنا قالوا إن الأصل في العبادات التعبد من دون الالتفات إلى الأسرار والأهداف والمقاصد، بمعنى أن القياس لا يجري فيها، لا بمعنى أنها خلت تماماً من الحكم والمقاصد والأهداف والأسرار، فمثلاً صيام رمضان فيه من الأسرار والحكم والمقاصد لكن الأحكام المتعلقة بصيام شهر رمضان ونفحاته لا تنتقل إلى غيره من الشهور بالقياس على رمضان، لأن الأوصاف التي جاءت في رمضان خاصة به وقاصرة عليه لا تتعدى إلى غيره من الشهور.
بخلاف الربا مثلاً، الذي حرمه الله ونص الحديث على أنواعه الستة التي يجري فيها الربا باتفاق جميع العلماء، وهي: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والقمح بالقمح، والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، لكن العلة في التحريم ليست قاصرة على هذه الأصناف الستة على قول الجمهور، لكنها تتعدى إلى غيرها من الأصناف المذكورة.
من هنا وضح الفرق بين العبادات المحضة التي لها أهداف وأسرار ومقاصد لكنها قاصرة عليها وحدها ولا يمكن أن تنتقل إلى غيرها، لأن مبنى العبادات على ما جاء به الشرع، ولا يجوز التوسع فيها، حتي ولو كان لها أوصاف وعلل وحكم ومقاصد، لكن المعاملات مبناها على التوسع، فأي معاملة من بيع أو شراء أو رهن أو شركات أو زواج أو نفقات أو حدود أو جنايات يمكن أن يقاس عليها، لأن علتها متعدية إلى غيرها بالضوابط الأصولية التي ذكرها العلماء فى شروط العلة.
ثانياً: اهتمام العلماء بالأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج، وتسمية ذلك فقهاً، على حساب الأهداف والأسرار والمقاصد التي أودعها الله سبحانه وتعالى في العبادات المحضة.
فباب الصلاة مثلاً كتب فيه السادة العلماء فيما يخص الأحكام الشرعية المتعلقة بمقدمات الصلاة من أحكام المياه والوضوء والتيمم والغسل والدماء التي تخرج من المرأة وأحكامها، ثم الكلام على حقيقة الصلاة وشروط وجوبها وصحتها وأركانها ومبطلات الصلاة، وأنواع الصلاة فرضاً ونفلاً والكلام عن نوافل الصلاة في مجلدات، لكنهم لم يتكلموا عن أسرارها ومقاصدها وأهدافها النفسية والمجتمعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية، وغير ذلك من المقاصد التي قصدها الشارع الحكيم من مشروعية الصلاة.
فاهتم الناس بالصلاة من حيث إقامة الظاهر فيها، من دون الالتفات إلى ما فيها من قيم عظيمة تتعدى الظاهر إلى الحقيقة والباطن، ليس على المستوى الفردي فحسب، وإنما تمتد مقاصد وأهداف الصلاة إلى واقع الأسرة، وتمتين العلاقة بين الرجل وزوجه، وواقع المجتمع بإقامة الصلاة في المساجد خمس مرات، فالصلاة منهج حياة يمتد أثرها إلى كل مظاهر الحياة، لكن الفقهاء لم يعظموا هذا الجانب في العبادات.
لعل ذلك لأن الأجيال السابقة كانت تعيش المعنى الحقيقي للعبادات المحضة فلا حاجة إلى النص والكلام عن أهدافها ومقاصدها لأنه ثقافة معلومة من المجتمع، ومأخوذة من الواقع، لكن العصر الآن غير العصر، ونحتاج على وجه الضرورة إلى أن نبين للناس الأسرار والأهداف والمقاصد التي من أجلها شرع الله الصلاة والصيام والزكاة والحج، لا بقصد القياس عليها كما قلنا وإنما بقصد الوقوف على حقيقتها ولبها ومقصدها، حتى تتحقق هذه الأهداف وتلك المقاصد في حياة الناس الفردية والأسرية والمجتمعية والأممية.
ثالثاً: لما شرع الله سبحانه وتعالى الصلاة والصيام والزكاة والحج إنما كان لإجل تحقيق المقاصد والأهداف أولًا، وتأتي الأحكام الشرعية المتعلقة بالظاهر من باب التبع.
التتبع الاستقرائي لآيات القرآن يجد هذا المعنى واضحاً جلياً، فلا يذكر الشارع العبادة المحضة إلا ومعها مقاصدها، ثم يثني ببعض الأحكام الشرعية المتعلقة بها، ونأخذ مثالاً على ذلك الصيام، فأول الآيات المتعلقة بالصيام ذكرت المقصد منه وهو التقوى. قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”، ثم ذكر بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصيام فقال: ” أياماً معدودات….”
من هنا نعلم أن الأصل في العبادة تحقيق المقصد من مشروعيتها، ثم بيان الصورة الظاهرية التي أمرنا بها الشارع الحكيم في أحكامه، ومن هنا تأتي أهمية الوقوف على مقاصد العبادات المحضة، حتى لا نقف على الظاهر فحسب في أداء العبادة، وإنما نحقق مقاصدها الشرعية.
أزعم أن في كل آية من الآيات أو حديث من الأحاديث الذي تكلم عن العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج فيه مقاصد جمة قد ظهر بعضها وخفي الآخر، وهذه مقدمة لبيان أسرار ومقاصد الصيام التي سنذكرها في مقالات متتابعة، نظراً إلى أننا على مقربة من شهر رمضان المبارك، عسى أن يتقبل الله منا ومنكم سائر الأعمال الصالحة في هذا الشهر المبارك.
عذراً التعليقات مغلقة