لا ينوي المقال التأريخ للسنوات الأخيرة العجيبة من حياة مخيم اليرموك. فهذا أمر ينوء به الكاتب، في الوقت الراهن على الأقل. النية أكثر تواضعاً، وإن كانت أيضاً غير هيّنة، وهي رصد مفاصل رئيسة من حياته هذه أدت إلى تحوله من أشد المناطق ازدحاماً بالسكان، وأكبر سوق استهلاكية في سوريا، وعاصمة الفلسطينيين في الشتات.. إلى بقعة منكوبة يقطنها بضعة آلاف في ظروف معيشية مأساوية، وصولاً إلى التاريخ المشؤوم الذي شنت فيه الحملة العسكرية الواسعة تحت عنواني “الحرب على الإرهاب” و”تحرير اليرموك”، وما هي في الحقيقة إلا تدمير ممنهج وإزالة للمخيم من خارطة اللجوء، بما يشكله من ثقل ديموغرافي ورمزية كبيرة تتعلق بحق العودة. ومن المستفيد من ذلك كله؟ هذا ما يحاول المقال في أجزائه الإجابة عنه والبرهنة عليه. فكيف وصلنا هنا؟
لنبدأ من المنتصف: لم يكن من فراغ تشاؤم سكان مخيم اليرموك من شهر نيسان، الذي سموه تهكماً: شهر الفتوحات. ففيه تم لتنظيم الدولة الإسلامية السيطرة على المخيم في مرحلتين:
الأولى: نيسان 2015: اقتحم مسلحو التنظيم، الذين كانوا بضع عشرات محاصرين في حي من أحياء الحجر الأسود.. اقتحموا مخيم اليرموك، بتسهيلات من جبهة النصرة، وتمكنوا من طرد كتائب “أكناف بيت المقدس” التابعة لحركة حماس والمسيطرة على المخيم آنذاك، بعد قتال استمر ثلاثة أيام فقط! لمَ فكت الحركات الإسلامية في المخيم الحصار عن التنظيم في الوقت الذي كان تحالف دولي واسع يستعد لضربه في عقر خلافته؟ ما تفاصيل العلاقة بين النصرة والأكناف، وكيف تواطأت النصرة مع التنظيم؟ ما سر هزيمة الأكناف هذه الهزيمة السريعة الساحقة؟
الثانية: نيسان 2016: اندلع القتال بين الحليفين السابقين، الجبهة والتنظيم، الذي انتهى إلى انحسار الجبهة إلى غرب اليرموك (منطقة الريجة بشكل رئيس) وبسط التنظيم سيطرته المطلقة على الحجر الأسود والأجزاء الأكبر من المخيم.
كيف تمدد التنظيم خلال عام واحد؟ كيف وصلت إليه الأموال؟ كيف أحدث الانشقاق في الجبهة بتشكيل “جماعة الأنصار” التي صارت تلقائياً جزءاً عضوياً من التنظيم؟ (هذه المجموعة من الأسئلة، وسابقتها، لا تطرح بغرض الإيحاء بوجود مخطط خفي يستعصي على الأفهام، أو لعدم وجود إجابات عنها.. أبداً !). يهمنا هنا، أن فصلاً شديد السواد بدأ في حياة أهل المخيم. وكان كل شيء فيه يشير إلى أن غرضه الوحيد التضييق على المدنيين وتنغيص معيشتهم أكثر فأكثر، بحيث لا يعود أمامهم إلا الرضوخ التام والانضواء تحت راية التنظيم، أو مغادرة المخيم.
وهكذا، من بقي في بيته رغم الحصار المطبق، والتمويت جوعاً، والبراميل، وتدني الوضع الصحي (في الوقت الذي يتلقى فيه مصابو التنظيم ومرضاهم العلاج في مشفى المهايني في حي الميدان في العاصمة دمشق!) وإذلال السلل الغذائية، وانقطاع الماء والكهرباء، واتهام أبناء جلدته له بالتدعشن والإرهاب… كان عليه الآن تحمل قوانين دولة الخلافة:
● فرض “اللباس الشرعي” على النساء وإطلاق اللحى على الرجال.
● حظر التجول أثناء مواعيد الصلاة، وإغلاق المحال، وإجبار المارة على دخول المساجد لأداء الجماعة.
● منع أشكال التغطية الإعلامية كافة (كذا صرح مرة المسؤول الثاني في التنظيم يومها “أبو مجاهد”: لا ترفع كاميرا في أرض الخلافة!) ليزيد التعتيم الإعلامي حياة الناس عتمة على عتمتهم.
● تطبيق “الحدود والتعزيرات” (القتل، قطع اليد، الجلد، السجن،..) على تهم من قبيل الردة، والتخابر، وشتم الذات الإلهية، والسرقة، والتدخين على الملأ.
● منع كل أشكال التجمع والنشاطات ( شهد المخيم، حتى في ظل المجاعة القاتلة والحصار المطبق، أمسيات أدبية، ونشاطات اجتماعية، ودورات في الدعم النفسي، ولقاءات دورية للمجلس المدني.. كل هذا توقف حين خلصت مقاليد الأمور للتنظيم).
● وكانت الطامة الكبرى بإغلاق المدارس، لإجبار الطلاب على الدراسة في “مدارس” التنظيم ووفق “مناهجه”، أو جعلهم يضطرون يومياً لتحمل إذلال ومزاجية حاجز العروبة في سبيل الوصول إلى مدارس البلدات الثلاث، ومنع المعلمين المقيمين في المخيم من التدريس في مدارس البلدات الثلاث و”استتابتهم” وجعلهم يوقعون تعهدات بذلك، ثم التضييق على الطلاب أنفسهم بمنعهم من المرور عبر حاجز العروبة بشكل تام أحياناً، أو مصادرة دفاترهم وكتبهم وحقائبهم المدرسية أحيانا ثانية.
كل ما سبق أدى إلى شيئين على الأقل:
1- تردي الحالة المعيشية والنفسية لأهل المخيم وصولاً إلى مستوى من القرف المطلق.
2- نزوح أعداد غفيرة منهم إلى البلدات الثلاث، وإن بشكل مؤقت، ليتمكن أولادهم من نيل قسط معقول من التعليم.
هكذا، استؤنف مسلسل التهجير، تمهيداً للضربة النهائية القاضية.
يتبع..
Sorry Comments are closed