لم يكن ما جرى في مدينة نيس الفرنسية في 14 يوليو/ تموز الجاري، عيد الثورة الفرنسية، جريمة عادية بالتأكيد. كان مجزرةً وحشيةً من النوع الذي لا يترك مجالاً للشك في أن من قام به فقد جميع الصفات الإنسانية، وأن القتل والتمثيل بالإنسان أصبح مصدر متعةٍ خاصةٍ وتشفٍّ من أولئك الذين لم يكن يشعر بأي رابط بينه وبينهم، ومن يعتقد أن فرحهم مصدر تعاسته، واجتماعهم تحدّ لتوحده وبؤسه، ووجودهم سبب ضياعه وموته. وهي جريمةٌ مخيفةٌ بكل المعايير، لأنها لا تحتاج في تنفيذها وسائل معقدة، كما أن من الصعب على أجهزة الأمن توقعها، ودرء مخاطر تكرارها. وباستثناء داعش التي تبنتها متأخرةً، ليس هناك إنسان يملك الحد الأدنى من الملكات العقلية والنفسية، ومهما كانت ديانته ومذهبه وأفكاره، يمكن أن يقبلها أو يتساهل مع إدانتها.
لا نملك بعد أي تفسيرٍ مقنعٍ لهذه الجريمة، فلا يزال التحقيق جارياً لتحديد أسبابها وحوافزها، وفي ما إذا كانت بالفعل سياسيةً وأيديولوجية، قام بها واحدٌ من الذئاب المنفردة التابعين ل”داعش” والإرهاب العالمي، أو جريمة جنائية من فعل شخصٍ ضالّ، فقد عقله وطار صوابه، فأطلق العنان لإرادة الموت والقتل لديه، وانتقم لنفسه بالهجوم على من يمثّل هذه الإنسانية العاقلة المحتفية بنفسها التي فقدها. وسوابق مثل هذه الجرائم ليست قليلة. فكم من مرةٍ نقلت الصحافة الأميركية وقائع مشابهة، قام فيها شخصٌ مختلٌّ حمل سلاحه، وأطلق النار على المارّة، بل حتى على زملائه في المدرسة، وأردى عشرات منهم، قبل أن تُرديه الرصاصة القاتلة. كان ذلك قبل أن تولد “داعش”، وليس هناك سبب أن لا يستمر بعدها. والواقع أن المجتمعات تزخر بهذه الأفعال الناجمة عن الاختلال أو الاضطرابات العقلية أو التهميش والعزلة والحرمان، سواء أكانت أفعالاً فردية أو نابعةً من تهور جماعات سرية دينية، كما حصل في 1978،عندما فقد حوالي ألف شخص حياتهم في انتحار جماعي، دعا إليه زعيم جماعة شعب المعبد جيم جونيس في كاليفورنيا.
الإرهاب وتوظيفاته المتعدّدة
ما هو مهم في نظري، الآن، ليس الجريمة نفسها، وإنما التوظيفات السياسية والأيديولوجية لها. والتي تطال جميع الفاعلين الاجتماعيين والدوليين، وتتحكّم فيها المصالح السياسية والرهانات الاستراتيجية أكثر بكثير مما تخضع لمنطق البحث عن الحقيقة، وأقل من ذلك المصلحة الأمنية للمجتمعات المهددة نفسها. وعلى هذه التوظيفات، أود أن أشدّد، في هذه المقالة، لأظهر أن مخاطر هذه التوظيفات التي تتستر وراء سوء الفهم، أو سوء التفسير، أو الحماس المفرط للحرب ضد الإرهاب، قد تظهر في المستقبل أنها كانت ذات نتائج أخطر بكثير من المجزرة نفسها، وأن عدد ضحاياها أكبر بما لا يُقاس من ضحايا العملية الإجرامية نفسها.
أول هذه التوظيفات وأخطرها ما تقوم به المنظمات الإرهابية، فليس هناك شك في أن هذه المنظمات، وهنا “داعش” بالذات، تجد مصلحةً كبيرةً في أن تنسب لها جرائم كثيرة لا تظهر فيها الحوافز الشخصية الجنائية بشكل واضح، وهي بالضبط الجرائم المرتبطة بالاختلال العقلي أو الجنون والانتحار، حتى تظهر للرأي العام العالمي قوتها، وسعة انتشار قاعدتها، وقدرتها على التأثير والحركة في أكثر من مكان في الوقت نفسه. وأي صورةٍ يمكن أن تخدم مثل هذه المنظمات أفضل من صورة الشبح الذي يقضّ مضاجع المجتمعات والدول، ويمدّ أذرعه في أصقاع العالم المختلفة، من دون أن يراه أحدٌ أو يتحقق من وجوده ويقبض عليه؟ فكما يقدم الإشهار الواسع لحركات التطرف الداعشي والقاعدي فرصةً لمثل هؤلاء المضطربين عقلياً أو اليائسين من العالم والمستقبل، لإعطاء عملهم الانتحاري الإجرامي شحنةً معنويةً وعاطفيةً أكبر بنسبه إلى منظمة عالميةٍ قويةٍ تشغل العالم، تقدّم أعمال الجنون والاضطراب العقلي المنفردة، والتي يقوم بها أفرادٌ، ليس لهم أي علاقةٍ بعقيدة هذه المنظمات وأهدافها، فرصة لهذه المنظمات، التي تقف في مقدمتها اليوم “داعش” لإظهار قوتها وشوكتها. وللأسف، يُخشى أن لا نحتاج في المستقبل إلى فتح صفحة الأخبار المتفرقة أو الاجتماعية، حتى نقرأ عن وقائع أعمال الجنون هذه، كما كان يحصل منذ عقود، لأن رصيدها سوف يُضاف بشكل تلقائي إلى رصيد منظمات الإرهاب الدولي، على الأغلب.
لا يقلّ عن ذلك خطراً نزوع قطاعاتٍ من الرأي العام في الدول الصناعية المتقدمة، الحسّاسة جداً لمسألة الأمن الفردي والوطني، إلى وضع هذه الجرائم في سلة فئةٍ ما من السكان، الفقراء والمهمشين في الماضي، والمهاجرين واللاجئين والأجانب في الوقت الحاضر، وفي مقدمتهم المسلمين، وترسيخ اعتقاد عميق بأن العنف، وما يرتبط به من نزعة الإجرام والتطرف، هو ماهية ثابتة في ثقافة هؤلاء، وبالتالي، تغذية نزعة تمييز عنصري متنامٍ ضدّهم، يُفاقم من عزلهم عن المجتمع وتهميشهم، ومن ثم يدفع المضطربين منهم إلى تبني خطابٍ مماثل من التمييز ومشاعر الحقد والانتقام ضد الأغلبية من السكان. وهذا ما تستفيد منه بعض القوى والتيارات السياسية المتنافسة على السلطة، وتعمل عليه، كما تنزع إلى تغذيته الصحافة الصفراء التي تبحث عن الإثارة لحصد مزيد من القراء.
المؤكد أن إثارة الخوف من “الأجانب” أو التشكيك في اندماجهم أو في سلوكهم الأخلاقي والمدني، وهم ليسوا أجانب اليوم ولا مهاجرين ولا لاجئين، يسيء بشكلٍ كبيرٍ لهم، ويدمر شروط حياتهم، أو حياة قطاعاتٍ واسعة منهم، وبشكل خاص أفقرهم وأقلهم تاهيلاً وموارد. لكنه يؤثر بشكل أكبر على المجتمع بأكمله، فيدمر، من دون أن يدري، رأسمال الثقة الاجتماعي، ويزيد المخاوف والقلق والإنكفاء على الذات، ويشعل فتيل نزاع الهويات القاتلة بالفعل، حسب تعبير معبّر لأمين معلوف، كما يهدّد بزعزعة الاستقرار، وتدمير أسس المواطنة والعدالة والمساواة وحكم القانون والمسؤولية الفردية التي تقوم عليها النظم الديمقراطية.
نظرية التجذّر السريع في المسلك الإرهابي
في سياق النقاش الدائر حول مجزرة نيس، لفت نظري التركيز، في الإعلام الفرنسي، على ما سميت نظرية التجذّر السريع في التطرّف الاسلامي، وذلك للرّد على حقيقة أن مرتكب المجزرة لم يكن يشي بأي ممارسةٍ لعقائد الإسلام المعروفة. فنظرية إمكانية الانتقال السريع من حياةٍ عاديةٍ، لا دور للدين فيها إلى تبني عقائد التطرّف الداعشي أصبح هذه الأيام مركز تأملٍ لدى علماء الاجتماع والمحللين السياسيين، بهدف الكشف عن صلةٍ أكيدةٍ بين الجريمة الشنيعة لنيس وتنظيم داعش الدولي. والسؤال هو: هل يمكن لشخصٍ غير متديّن أن يصبح داعشياً في أسبوعين؟ وجواب أغلب الباحثين هو بالإيجاب. ربما لا يدري أصحاب هذه النظرية تبعات مثل هذا التفكير على حقوق الأفراد، والمسلمين منهم بشكل خاص اليوم، ولا على أجهزة الأمن التي يقع على كاهلها، منذ الآن فتح ملفاتٍ جنائيةٍ لملايين الناس الذين من المحتمل انقلابهم إلى الداعشية بين ليلة وضحاها، بينما كان عمل هذه الأجهزة حتى الآن مقتصراً على فتح ملفات لأصحاب السوابق، وهم مجموعة محدودة ومتابعتهم. لكن في ما وراء ذلك، لا يخدم مثل هذا الفكر سوى “داعش” نفسها التي تستطيع أن تلحق بنفسها أفراداً وجماعاتٍ لا حصر لهم من الناقمين والحاقدين والخارجين على القانون، وتضم أعمالهم وأفعالهم إلى قائمة إنجازاتها، لتزيد من قوة الرعب التي تريد أن تفرضه على جميع مجتمعات العالم الغربي. وينطبق هذا التحليل على نظريات الذئاب المنفردة التي تتبنى عملياً سعي بعض المنحرفين والمختلين عقلياً لإضفاء طابع سياسي وعقائدي على جرائمهم الشنيعة، بنسبها إلى “داعش” أو غيرها، وتساهم في تغذية أوهامهم، بدل إرجاع أعمالهم إلى سجلها الحقيقي جرائم شخصية وجنائية في معظم الوقت. ويبرز هذا التفكير أن هناك مجتمعاً يريد أن يخيف نفسه بنفسه، ويدخل في لعبة التطرّف والإرهاب الدولي، وينساق إلى التجاوب مع هلوساته.
هناك بالتاكيد منظمة داعشية شديدة الإغراق في الوحشية والسعي إلى الانتشار في كل العالم. ومن المفهوم نزوع كثيرين إلى نسب جميع الأعمال الاجرامية لها، لأنها تعتبر الآن المرجع الأول لمذهب التوحش الذي يشكل جزءاً من عقيدتها السياسية والدينية والأيدولوجية. ومن المحتمل جداً أن تكون عملية 14 يوليو/ تموز في نيس قد حصلت بوحيٍ من هذه المنظمة الإرهابية بالفعل، معاقبةً لفرنسا على مشاركتها في التحالف الدولي ضد داعش. لكن، من المحتمل جدا أيضاً أن يصبح الولاء لداعش وسيلةً عند بعض المختلين والمرضى الذين تنهشهم مشاعر الدونية والحقد والضغينة، ويفقدون صوابهم في لحظةٍ ما، لسببٍ أو آخر، وسيلةً لإضفاء معقوليةٍ عقائديةٍ وسياسيةٍ على عملٍ، لا يمكن أن يكون له سجل آخر غير سجل الاضطرابات العقلية والجريمة المجانية.
من الضروري أن نعترف بأن هناك، في كل الجماعات والمجتمعات، مسلمين وغير مسلمين، أفراداً اعتادوا اللجوء إلى الجريمة أو خرق القانون لتحقيق أغراضهم، وآخرون اختلّ توازنهم وفقدوا روادعهم الأخلاقية وحسّهم السليم، وضلوا طريقهم، وهم قادرون على استغلال الأوضاع السياسية، لتمرير نتائج أعمالهم الوحشية على أنها جزءٌ من الأفعال “المعقولة” المرتبطة بولاء مذهبي وعقيدة. وعلى الرغم من صعوبة التمييز في الأصل بين الجريمتين، الجنائية والسياسية، وهي صعوبة مضاعفة في حالة جرائم الإرهاب التي تكاد تجمع بين الجريمتين في نسقٍ واحد، فإن من المفيد للجميع، لرجل القانون، ورجل السياسة، والرأي العام وجميع المواطنين ذوي الأصول الأجنبية، والإسلامية خصوصاً، في السياق الصعب الراهن والمعقد والحسّاس لمحاربة التطرف والإرهاب، أن يعطى ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
ما يسود في الإعلام والرأي العام الدوليين من نزعةٍ تبسيطيةٍ، تميل إلى إلحاق أي عمل عنف وإجرام بمنظمات الإرهاب، بعد أن تم ربط الإرهاب بشكل واسع بحركات إسلامية، أطلق عليها عموماً الإسلام السياسي، وهي نقيضٌ للإسلام والسياسة في الوقت نفسه، لا يساهم في دحر الإرهاب، لكنه بالعكس، وبمقدار ما يزيد من تهميش المجتمعات الإسلامية وإفقارها وتقويض استقرارها، يفاقم من استعداد الأفراد المحرومين من أي أملٍ أو مستقبلٍ للإصغاء لصوت التمرّد والعنف، ويعجّل في تحقيق نبوءته الذاتية الكاذبة. ومنذ الآن، يكاد ربط الإرهاب بالإسلام يصبح بديهةً لا نقاش فيها، إنْ لم يصبح بالفعل، حتى في أذهان مسؤولين كبار في الدول الكبرى، حقيقة واقعة، ويستخدم من العديد منها ذريعةً لفرض وصايةٍ متجدّدة على مصائر شعوب منطقةٍ كاملةٍ، كانت، حتى قرنين سابقين، إحدى بؤر الحضارة والمدنية الرئيسية.
* نقلاً عن: “العربي الجديد”
عذراً التعليقات مغلقة