أثار قرار ترامب الاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني على الجولان السوري المحتل -في مخالفة صريحة وواضحة لكل قرارات الأمم المتحدة- موجة من الاستياء الدولي، وصدرت البيانات والتصريحات المنددة بهذا القرار من كل مكان في العالم، إلا من المكان المعني بهذا، وأقصد دعاة المقاومة والممانعة الذين أشبعونا شعارات خلال السنوات الطويلة الماضية، وكل ما قدموه هو تصريح يدين القرار نقلته وكالة سانا عن لسان مصدر مسؤول في خارجية النظام، وحفلة شتائم على وسائل إعلام النظام، وحلقات الدبكة، وخلصوا أن النظام انتصر، خصوصاً بعد رفع العلم على “طشت” مملوء تراب، واعتبر هذا انتصار كبير على الكيان الصهيوني، قوبل بسخرية على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل المؤيدين قبل المعارضين.
لقد حرص الأسد الأب على المتاجرة بالقضية الوطنية مع إفراغها من مضمونها، ومنع تطور أي شكل من أشكالها، ليغدوا شكلاً حقيقياً يغرد خارج سربه، لهذا كان لابد في البداية من بيع الجولان للكيان الصهيوني مقابل السماح له بالاستيلاء على كرسي الحكم في سوريا، وتصفية كل الشركاء الذين ساهموا معه في انقلاب الثامن من آذار 1963.
ثم كانت حرب تشرين التي حاول من خلالها إضفاء شرعية وطنية على حكمه، وفي المقابل كان قسم كبير من الضباط وصف الضباط والعناصر الوطنيين مؤمنين بما يقومون به ويحاربون لأجله، واستغل النظام هذا الإيمان، وهذه العقيدة القتالية الوطنية ليزج بهم في الصفوف الأولى للمعارك، مستغلا الفرصة كي يعدل هيكلية الجيش ويحمي نفسه من انقلاب ما، فأبقى على الفاسدين والمتسلقين الموالين له بشكل مباشر.
لم يستطع الأسد الأب نزع العقيدة الوطنية عن كل أفراد الجيش، وبقيت موجودة لدى الكثير من الضباط، وصف الضباط، والعناصر الشرفاء الذين زج بهم مرة أخرى في لبنان وقاتلوا وصمدوا أمام الاجتياح الصهيوني للبنان وسطروا الأساطير في الشجاعة والبطولة.
مرة أخرى بقي هؤلاء -وإن قلّ عددهم وتأثيرهم- شوكة في حلق الأسد، فكان التسريح، ووقف الترفيع، والرقابة اللصيقة عليهم عقوبة على موقفهم الوطني ونزاهتهم، وإن استطاع تحييد الجيش والسيطرة عليه بشكل كامل إلا أن بذرة الوطنية لا زالت لدى الكثير منهم وشاهدنا موقفهم في الثورة وانشقاقهم عن النظام، ورضاهم بالعيش مشردين لاجئين بدلاً من البقاء في جيش يقتل شعبه.
يعلم الكثير أن تدخل نظام الأسد العسكري في لبنان -تحت ذريعة حماية المسيحيين- كان من أجل ضرب الحركة الوطنية اللبنانية المقاومة للكيان الصهيوني والتي تألفت من منظمة التحرير الفلسطينية وعدد من الحركات والأحزاب الشيوعية والقومية، من أجل التفرد بالقضية الوطنية وتفريغها من مضمونها وتحويلها لورقة سياسية يستثمر فيها من أجل البقاء على كرسي الحكم، حيث تلقت الحركة عدة ضربات موجعة من النظام السوري منذ تدخله عسكريا في حزيران 1976 وتلاه اغتيال زعيم الحركة الوطنية كمال جنبلاط في آذار 1977 حتى حلت بعيد اجتياح لبنان من قبل الكيان الصهيوني في عام 1982، كما يعلم دور نظام الأسد في مذبحة مخيم تل الزعتر بعام 1976 بحق اللاجئين الفلسطينيين في المخيم والتي قامت بها ميليشيات لبنانية يمينية مسيحية مدعومة من قوات نظام الأسد.
كانت تلك الممارسات ومحاولات نظام الأسد شق صف الحركة الوطنية الفلسطينية، الكاشف الحقيقي لزيف خطابه العروبي القومي المتاجر بقضية فلسطين ومقاومة الكيان الصهيوني، فتصاعدت الانتقادات ضد ممارسات نظام الأسد مما اضطره للموافقة على قمة للجامعة العربية والتي أوقفت القتال مؤقتاً في لبنان فتوقف هجومه على منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.
دفع نظام الأسد قواته الموجودة في لبنان للعمل بتهريب السلع والمواد الضرورية للمعيشة والتي كان قد أوقف استيرادها بشكل مباشر عبر موانئ سوريا بذريعة وجود حصار على سوريا، ليشارك الحلفاء في لبنان من زعماء المليشيات اللبنانية عوائد تلك التجارة وليشغل جيشه بتلك المهمة وينشر الفساد والمحسوبية والولاء المطلق له لتكون عقيدة جديدة للجيش السوري بدلاً من عقيدته الوطنية.
في الداخل السوري وبعد حملة تعقيم المجتمع السوري من أي صوت معارض، وتصفية أي تجمع قد يشكل خطرا عليه في المستقبل تحول إلى تأليه نفسه عبر وضع صوره وتماثيله في كل مكان حتى على الكتب والدفاتر المدرسية، وتم تحويل مبادئ وأفكار حزب البعث العربي الاشتراكي إلى المستودعات وعلى أرفف الكتب، واستعيض عن مادة التربية الوطنية أو علم الاجتماع بالتربية القومية وأصبحت تضم خطابات الأسد الأب، وفرضت على الطلاب كمنهج دراسي.
يا ترى؛ لو لم يفعل نظام الأسد ما فعله بسوريا، من تفريغ للقضية الوطنية وتحويلها لشعاراتية تستخدم في المناسبات، وإدخال جيش الوطن في مواجهة مع شعب هذا الوطن في سبيل بقاءه في كرسي الحكم، هل كنا سنشهد ما قام به السيد ترامب من نقل سفارة بلاده إلى القدس ومن الاعتراف بالجولان؟.
عذراً التعليقات مغلقة